أحلام مستغانمي

2015-12-10


الفلسطيني الذي قبّلنا ... ومضى*

بقلم :أحلام مستغانمي

علي ان أجتهد كثيراً لكتابة رثاء في الفلسطيني الذي فاضت الجرائد بموته المعلن بعد ان فاضت الأخبار على مدى ثلاثين سنة باحتمالات حتفه.

لفرط ما مات، لفرط ما بُعث حياً، لفرط ما أوهمنا بانه لا يموت، ثم عاد وأكد لنا أنه لن يموت، الا شهيداً، شهيداً شهيداً، وجدنا أنفسنا مكيدة بعد أخرى شهوداً، شهوداً، شهوداً على ما ينصبه له الموت من كمائن.

ما كان يتمرّن على الموت، كان منذ سبعين سنة يتمرن على الحياة، فالحياة هي التمرين الأصعب للانسان الفلسطيني المنذور بنهايات مفجعة، وكنا نتمرن على تحويل مأساته إلى خبر عادي حتى لا نفسح لها مجالاً للنكد بنا، والاقامة الدائمة فينا.

تعاملنا مع مسلسل حزنه الطويل النفسي كما تتعامل بعض الانظمة العربية مع اللاجئين الفلسطينيين، بمنحهم ارضاً في ضواحي القلب، يمنع فيها بناء بيوت بسقف، لتذكيرهم بأننا تكرمنا عليهم بالجدران، وبان لهم بيتاً غير قصديري في وطن قيد الانجاب.

اعتدنا ان نراه يقيم في منافي التاريخ، مطروداً من مرفأ إلى آخر، صامتاً خلف متراس او آخر، محاصراً في جحر او آخر. قَبِلنا بأن يهان الرمز حتى حشره في غرفة في خندقه الأخير، لا تليق بقامة قضيته، ولا بشرف هو شرفنا.

ويوم جردوه من كل شيء ومنعوا عنه حتى الماء، لمزيد من اذلاله، تعلم ان يشرب من كأس الكبرياء، وأن يستحم بالأمل ويتطهر بالذاكرة، ويتوضأ لكل صلاة بدم الشهداء.

فقد كان يرفض ان يجردوه من ماء الحياة، لعلمه ان في صموده انقاذاً لماء وجوه الفلسطينيين. ولماء وجوهنا فقد كان عليه ان يصمد ويبقى منتصباً رافعاً شعارات النصر والصدامات، مدافعاً عن اخر خندق للكبرياء العربية.

كان بطلاً فلسطينيا بقدر الاغريقي، صنع اسطورته بتحديه فخاخ الموت، وكمائن الاعداء، ومقاومة حوريات الشهوة الأرضية والوقوف وحيداً في مواجهة لعنة الآلهة الجدد الذين يقطنون العالم من خلف مكاتبهم البيضاوية ويخرجون وطناً إلى الوجود ويخفون آخر من على وجه الارض، بجرة قلم.

تحدّاهم بان صنع له وطنا يحمله على كتفيه اينما مضى، حول قطعة قماش من اللونين الابيض والاسود إلى قطعة شطرنج ينازل فيها الاعداء على رواية التاريخ والجغرافيا...من وجهة نظر الضحية.

لم يكسب كل الجولات لكنه سدد للاسرائيليين ضربة تاريخية، عندما انتصر باهداء فلسطين علماً  اشهر من علمها الرسمي، علماً ملاصقاً لصورته متوحداً جسدياً به حتى غدت فلسطين وطناً ملفوفاً في كوفيته.

سمعته مرة يشرح اثناء مقابلة تلفزيونية العناية التي يضع بها تلك الكوفية التي تبدو في منظرها وهي منسابة على كتفه مطابقة لخريطة فلسطين.

ذهلت وهو يقف امام خريطة وطنه المسروق، معتمراً حلمه بوطن مصراً  كل صباح، وهو يرتديه على انه سيستعيده حتماً ويصلي في قدسه الأشرف ويدفن فيه، تمنيت يوم جنازته لو صحت ما ت عرفات عاشت كوفيته لانقد حلمه الأخير لارفع من الارض حلما حمله على كتفه عمراً كاملاً ولذا عاش محمولا في ذاكرة الفلسطينيين على اكتاف القلب.

ولكن حتى زوجته سهى نسيت في حزنها الأنيق ان تضع كوفيته على كتفيّ ابنته التي ما وجد وقتاً ليحضنها في حياته، لانهماكه في احتضان شعبٍ باكمله.

بعده سيتناوب الكثيرون على قيادة الدولة الفلسطينية، لكن لن يأتي احدهم معتمراً كوفية، فوحده عرفات كان كائناً رمزياً. وكل فاجعة الفلسطينيين ودموعهم تدفقت من هذه الحقيقة.

اما حزننا نحن العرب، ففي ادراكنا الموجع، ان زمن الكوفية قد ولي بموت ياسر عرفات، إننا في زمن عولمة المهانة، سنرتدي طويلاً حداد موتانا.


*"افاق" العدد 17 عدد خاص في الذكرى الاولى لاستشهاد ياسر عرفات
هيئة التوجيه السياسي والوطني