فــاروق وادي

2015-12-09

بيتك الأوّل، ترابه الأخير

بقلم: *فــاروق وادي

نَعيشُ معكْ
نسير معك
نجوع معك
وحين تموت
نحاول ألاّ نموت معك"

(محمود درويش)


المروحيات التي حلّقت في سماء رام الله في تلك الصبيحة المبكِّرة حاملة الجسد الواهن لياسر عرفات من ساحة بيته الأخير في المقاطعة إلى مشفاه الباريسي، كانت تُغلق فصلاً طويلاً زاخراً من فصول التغريبة الفلسطينيّة الممتدة في الزمان والمكان، وتشرع في كتابة فصلٍ جديد من تراجيديا العصر.. سنشهده هذه المرّة، دون ياسر عرفات..

الآن، تقف لتتأمّل تلك المفارقة اللافتة لعلاقتك بالرجل، بعد ثلاثين عاماً من العمل معه والسير على ذات الطريق..

فها هو ياسر عرفات يجد ترابه الأخير في ساحة المقاطعة، وهو التراب التي هبطتّ عليه من دفء الرحم ذات يوم بعيد، في خيمة كانت منصوبة هناك، بعد شهور من النكبة..
وتتذكّر أن جدران بيتك الأوّل في هذه الحياة، كانت غرفة مُنحت لوالدك في المقاطعة.. التي كانت، وللمصادفة التراجيديّة.. بيت ياسر عرفات الأخير!

لم يُمهل الموت ياسر عرفات أسابيع قليلة أخرى ليشهد دخول حركة فتح والثورة الفلسطينيّة المعاصرة عتبة العقد الخامس من عمرها، والتي كان للرجل الدور الأساس فيها على مدى العقود الاربعة الماضية.

أربعون عاماً إلاّ خمسين يوماً، ظلّ الرجل فيها يتردد بين موت وموت، لكنه كان قادراً في كلّ مرّة على أن يجترح معجزة التفلُّت الأسطوري من براثنه، وهي الأسطورة التي كان لا بدّ وأن تشهد انكسارها يوماً أمام جحافل هادم اللذات ومفرِّق الجماعات، فذهب كما أراد: شهيداً.. شهيداً!

أربعون عاماً إلاّ قليلاً، عاشها الرجل ونحن لا نراه إلاّ خارجاً من حصار ليدخل في حصار. وقد ظلّ على الدوام قادراً على شنّ حصار مضاد على أعدائه ومحاصرة محاصريه.

أربعون عاماً، عاشها الرجل متنقلاً من خندق إلى خندق، ومن منفى إلى منفى، ومن وطن في الذاكرة إلى وطن ظلّ مشتاقاً إلى نفسه. ولقد شبنا وابيضّت أفوادنا ونحن نترسّم خطاه رغم اختلافنا أحياناً مع خطواته. أمّا الذين انحرفوا عن مساره من رفاق سلاحه طمعاً بدور يشبه دوره، فقد كانوا يجدون أنفسهم سائرين في طريق حريق، أو في طريق غريق، أو في تلك الطريق التي تذهب ولا تجيء. كأنما ياسر عرفات لا يشبهه إلاّ ياسر عرفات، ولا معنى لوجه يحاول التشبّه بوجهه.
بعضنا سئم دوره في تلك التراجيديا، وهو لم يسأم. 

يتعب شباب الرحلة ولا يتعب الختيار..

نتأمل ملامحه من مواقع مختلفة، ونقول أننا، أينما ولينا وجوهنا، قد عشنا زمانه..

من الذي أطلق على أبو عمّار في ذلك اليوم البعيد لقب "الختيار"، ولماذا استجبنا له ودرجت الكلمة على ألسنتنا. لماذا وافقنا، ونحن أبناؤه الذين أصبحنا الآن أكبر عمراً منه في ذلك الوقت، دون أن يومئ أحد إلى تلال البياض التي داهمت رؤوسنا على الطريق.

ها أنت ترتد الآن ثلاثين عاماً لترى يوم أن تسلّمت عملك في منظمة التحرير. كنت تتأمّل قرار التعيين الذي يحمل توقيع ياسر عرفات. وعلى مدى العقود الثلاثة الماضية، ظلّ اسمه مرتبطاً بحياتك. كبرت وكبر الأولاد والختيار هو الختيار. ثلاثون عاماً لم تلتق الرّجل فيها إلاّ لماماً، ولم تَعلق بقدميك ذرّة غبار راقدة على عتبات مكتبه في يوم من الأيّام، فخسرت معرفته عن كثب.

هل هو نوع من العقوق؟!
ليس الأمر على هذه الدرجة من الدقّة. كنت تقول دائماً بقناعة وعناد: إنني جندي وهو القائد، فإذا ما استدعاني يوماً سأستجيب فوراً.

لكنه لم يستدعك، لا في بيروت ولا في تونس ولا في غزّة أو رام الله، ولم تكن بحاجة لأن تقترب أكثر، فضاعت عليك فرصة أن تتأمُّل عن قُرب ملامح رجل أسهم في تغيير ملامح التاريخ.

المرات القليلة التي التقيته فيها ببيروت كانت في مناسبات ثقافيّة، وضمن عدد كبير من المثقفين. والمرّة الوحيدة التي تسنت لك مصافحته، كانت في تونس، في بيت رئيس دائرة الثقافة في حينه الصديق عبد الله الحوراني، حين جاء أبو عمّار للقاء مجموعة من المثقفين العرب المشاركين في مهرجان قرطاج المسرحي، وكنت واحداً منهم. في تلك الليلة حظيت بالمصادفة بصورة مع السيِّد الرئيس.. قد تكون دليلك الوحيد على أنك عشت زمانه.

لم تقترب من القائد أكثر من ذلك. ثمّة حساسية متأصلة من الاقتراب أكثر مما ينبغي، ليس سببه الخلاف السياسي مع رجل اختلفت معه كثيراً واتفقت كثيراً، فقد بقيت دائماً قادراً على التعامل مع من تختلف معهم في السياسة ضمن الخطوط الوطنيّة العريضة. ولم يكن السبب هو الاعتراض على أسلوبه في الإدارة، وهو اعتراض ظلّ قائماً على الدوام، وإنما لقناعتك بأن الضوء الساطع يظلّ مهيّئاً لأن يحرق الفراشات التي تحوم حوله. وكانت لياسر عرفات قدرة الضوء الذي تشع منه نيران شديدة الوهج.

مع ذلك، فقد عشت زمانه..

امتزج ترابك الأوّل بترابه الأخير..

وشاءت المصادفة أن يكون بيتك الأوّل هو بيته الأخير..

إنه تفصيل صغير في تراجيديا العصر.. كبير بالنسبة إليك. وكلّ فلسطيني عاش زمن ياسر عرفات، سوف يجد ما يرويه، عن رجل ظلّ على الدوام جزءاً من حياة شعبه، على امتداد أربعة عقود من الزمان.


*("الايام" الفلسطينية 19/11/2004)