ماجد كيالي

2015-12-09


الخطاب الفلسطيني المعارض

بقلم:ماجد كيالي

كان ياسر عرفات على بساطته وانفتاحه وشعبويته شخصية اشكالية شديدة التعقيد، ويمكن القول أن هذه الشخصية الاستثنائية لخصت في مكنوناتها وفي رمزيتها التعقيدات والمداخلات المتضمنة في القضية الفلسطينية، والصراع العربي- الاسرائيلي.

ولم يدرك معارضو ياسر عرفات، لا سيما من المحسوبين على المعارضة الفصائلية النمطية، طبيعة تلك الشخصية، فذهبوا بعيداً برميها بالكبائر، غير مدركين أبعاد هذه الشخصية الوطنية- التاريخية، التي ظلت تحاول التحايل على موازين القوى المختل بشكل فظيع لصالح إسرائيل، والتي ظلت تتنسم صنع ثورة فلسطينية مستحيلة. في واقع عربي صعب ومشتت وعاجز، وفي ظل معطيات دولية غير مواتية على الإطلاق.

بديهي أن هذا ليس وقتاً للمحاسبة، لكن إعادة ترميم الساحة الفلسطينية تتطلب في ما تتطلب، مراجعة المعارضة الفلسطينية لخطابها الذي أسست عليها معارضتها، والتي دفع الشعب الفلسطيني أثمانها، منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي. هذا الخطاب الذي شل المعارضة الفلسطينية ذاتها، وأضعف صدقيتها، وأدخل الفلسطينيين في تجاذبات مجانية فائضة لم تستفد منها إلا اسرائيل.

لذا ليس المطلوب، في هذا المقام، الاعتذار فقط للراحل الكبير، الذي كان زعيماً وقائداً ومناضلاً، والذي لم يقطع حبل الود والوصل مع معارضيه، على تبايناتهم، وإنما من الأساس الاعتذار للشعب الفلسطيني، لأن هذا الاعتذار/ المراجعة هي التي يمكن أن تمهد لإعادة اللحمة للطبقة السياسية الفلسطينية، والتأسيس لإعادة تأهيل منظمة التحرير وتفعيل دورها، وتحرير الخطاب النقدي الفلسطيني من التبعات التي كُبِّل بها، في ثنائية ضدية ساذجة ومضرة (مع أو ضد/ موافق أو معارض/ وطني أو خائن)، نتيجة ضيق أفق المعارضة الفصائلية، وحساباتها السياسية المتضاربة.

كان البعض في المعارضة الفلسطينية الفصائلية يأخذ على عرفات أنه هيمن على منظمة التحرير، في حين أن الرئيس الراحل كان يحاول حماية استقلالية القرار الوطني الفلسطيني، على طريقته، من الرياح والعواصف الاقليمية والدولية. واللافت هنا أن هذه المعارضة لم تذهب في خطابها إلى حد المطالبة بإعادة بناء منظمة التحرير على أسس جديدة، تضمن الديمقراطية والمأسسة والقيادة الجماعية، ولا سيما الأخذ بالحسبان الواقع الجديد في الساحة الفلسطينية، المتمثل بنهوض قوى سياسية جديدة وأفول قوى سابقة، لأنها كانت في الواقع تفضِّل الحفاظ على (الستاتيكو) السائد القائم على نظام (الكوتا) الفصائلية.

والأهم مما سبق أن الفصائل المعارضة لم تتمكن من تقديم النموذج المحتذى للقيادة الجماعية وللديمقراطية المتوخاة، وللمراجعة النقدية المطلوبة، في خطاباتها وبناها وعلاقاتها الداخلية، والتي ينبغي على الرئيس عرفات الأخذ بها، في إدارته للساحة الفلسطينية! إضافة الى أنها عجزت عن توحيد ذاتها، كما عن تشكيل اي حالة بديلة تحظى بالحد الأدنى من القبول من الشعب الفلسطيني!

وإذا تجاوزنا الحديث عن الشأن الداخلي، فإن المعارضة السياسية الفصائلية لياسر عرفات، والتي استمرت طوال أكثر من عقدين، ومنذ ما بعد الخروج من بيروت، ولا سيما منذ توقيع اتفاق اوسلو (1993)، تأسست على اعتبارات، أو ادعاءات عدة، ملخصها أن الرئيس الفلسطيني فرّط بالقضية الوطنية، وتخلى عن خيار الكفاح المسلح، وشق الشعب الفلسطيني، لكن مسيرة ياسر عرفات خيّبت هذه الادعاءات السطحية والمتسرعة، التي غالباً ما انطوت على شخصنة النقد السياسي والمبالغة فهي، مثلما تضمنت مراعاة حسابات إقليمية معينة.

وكما بات معلوماً، فإن عرفات لم يذهب إلى حد التفريط بالثوابت الفلسطينية، المتعلقة بالبرنامج المرحلي (حل على أساس الدولتين). وعلى رغم انه واجه ضغوطاً ثقيلة جداً (إسرائيلية وأميركية ودولية وإقليمية)، في مفاوضات كامب ديفيد، رفض التنازل عن الحل الوسط التاريخي. من دون أن نذهب بعيداً إلى تحميله المسؤولية عن انهيار مفاوضات أرادت إسرائيل أن تنصب فيها فخاً له لاستدراجه إلى تنازلات نوعية إضافية، في الأرض والحقوق والسيادة. وهكذا فإن ياسر عرفات، بمسؤوليته الوطنية والتاريخية، دافع عن حقوق الشعب الفلسطيني ودفع ثمناً باهظاً لذلك، مثله مثل كل القادة الوطنيين.

معنى ذلك، أنك يمكن أن تختلف مع الرئيس الراحل على هذا التكتيك وعلى هذه الاستراتيجية، على شكل إدارة الصراع وعلى الشعارات، فهذه الأمور تبقى ضرورية ومطلوبة، ولكن بعيداً عن اجتراح الاتهامات الظالمة والطنانة والفارغة. وبالنسبة إلى اتهام عرفات بأنه تخلى عن خيار الكفاح المسلح، فقد أكدت مسارات الانتفاضة بأن هذا الادعاء ليس له صلة بالواقع، فقد كان أبو عمار ملهم الانتفاضة، مراهنة منه على معادلة المزاوجة بين الانتفاضة والمفاوضة، وكان هو تحديداً حاضن الظاهرة العسكرية المسلحة، التي اطلقتها (كتائب الأقصى) و (العودة) التابعين ل (فتح) منذ الاشهر الاولى للانتفاضة.

وبحسب الاحصاءات، فإن إسرائيل تكبدت في السنوات الاربع الماضية أربعة أضعاف ما تكبدته من الإصابات البشرية (قتلى وجرحى) على يد الفلسطينيين، خلال الفترة منذ قيامها الى اندلاع الانتفاضة (2000 - 1948)، واللافت أن المعارضة نفسها (باستثناء حركتي "حماس" و "الجهاد")، لم تعمل على تغطية هذا الفراغ، في ترسيخها لخيار الكفاح المسلح، وبذلك دفع عرفات هنا أيضاً ثمناً باهظاً لتمسكه بخيار المقاومة المسلحة، الذي اتهم يوماً بأنه تخلى عنه إلى الأبد.

أما بالنسبة إلى الانشقاق في الشعب الفلسطيني، فهو زعم لم يثبت البتة، إذ ظل عرفات رمزاً وزعيماً للفلسطينيين، في كافة أماكن انتشارهم، في الداخل وفي مناطق اللجوء والشتات، على رغم اختلافهم في شأن إدارته للوضع الداخلي، ولبعض الملفات العربية. وعملياً، فإن ياسر عرفات هو الزعيم الوحيد في العالم العربي، وربما في العالم، الذي لا يسيطر على شعبه وليس له أية سلطة إقليمية عليه، ومع ذلك، فإن هذا الشعب يمنحه محبته وثقته ويجمع عليه.

وما يسجَّل لعرفات في هذا المقام، انه لم يفرِّط بالوحدة الوطنية الفلسطينية، وأن نزوة السلطة والدولة لم تذهب به إلى حد فرض اجندته بالقوة على معارضيه، على رغم الظروف الدولية والإقليمية التي بات يمر بها وتمر بها القضية الفلسطينية، لا سيما منذ ما بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 .

هكذا، فإن بعض معارضي ياسر عرفات، من الفصائليين، لم يفهموه سياسياً، وهم أساساً لم يقدروا التعقيدات والإشكاليات والتداخلات المتعلقة بالصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، هذا الصراع الذي لا يحكم بالشعارات ولا بالبيانات ولا بالرغبات، وإنما بالتعامل مع واقع موازين القوى والمعطيات السياسية السائدة العربية والدولية.

الأنكى أن معظم المعارضة الفصائلية لم تتخل عن اتهاماتها هذه لعرفات، خلال الأعوام الأربعة الماضية، على رغم الانتفاضة وعلى رغم كل الصمود الذي أبداه، وعلى رغم اضطلاع حركة (فتح) بعبء حمل الظاهرة المسلحة، فظلت الاتهامات تكال له بدعوى أنه سيفرط بالانتفاضة وبالمقاومة وبالحقوق الوطنية!

لم يظلم ياسر عرفات، الظاهرة، من بعض معارضيه فقط، وإنما هو ظلم من بعض الموالي له، أيضاً، من حيث أدركوا أم لم يدركوا، حين لم يستوعب هؤلاء جوهر هذا الرجل الاستثنائي، الذي ما هي القضية والوطن والشعب في شخصه، وحين أراده هؤلاء صنماً وحزباً لهم، وهؤلاء بدورهم لم يدركوا التنوع والتعددية والرمزية عند ياسر عرفات، فقد كانوا مع أبو عمار الشخص والسلطة والقائد أكثر بكثير مما كانوا مع أبو عمار الرمز والزعيم والقضية.

رحل ياسر عرفات، بما له وما عليه، ولكنه سيظل ملهماً لكفاح شعبه من اجل التحرر، ومأثرته انه صنع ثورة المستحيل، وحقق حضور شعبه من الغياب، وساهم في بلورة الهوية الوطنية الفلسطينية، ووضع القضية الفلسطينية في قلب المعادلات السياسية وأطلق اسم فلسطين في الفضاء العالمي.


"من كتاب :ياسر عرفات : وتبقى فلسطين "

صامد الاقتصادي  العدد 139-140

 2005