هاني فحص

2015-12-09


أبو عمار.. من أين جاءت رمزيته وفرادته؟

بقلم: *هاني فحص


مرض الرئيس عرفات المتجلي في شحوبه وهزال بدنه، المزيَّن بابتساماته المتوالية والمترادفة وإصراره على الصوم الذي يحرَّم على المريض، ولكنه يصرّ على الصوم، كأنه يؤكد ان جسده لا يغلب روحه ولا تضعف بضعفه، تماما كما ان فلسطين لا يغلبها جسدها المنتهَك بالقتل والهدم والجرف، وتزداد الحاحاً على الحضور كلما تمادى العدو في ظلمها واستمرّ الأشقاء في هجرها. 

.. هذا المرض الأشبه بالعافية يقضنا على مفارقة بالغة تأتي من المقارنة بين جسده الماضي في تضاؤله ووجهه الذي لا يكاد يبقى منه سوى العينين ومطرح السجود على أرض فلسطين.. وبين أجساد قوم آخرين في مواقع مختلفة من المسؤولية على طول الأوطان العربية وعرضها، أجساد ممتلئة رافلة بالنعم ووجوه يغار الورد من حمرة وجناتها، ومع ذلك فهي لا تنطلي على أحد، وكلما تظاهرت بالعافية، زادتنا قناعة بأنها تكابر لأنها تعاني من أمراض مزمنة وفتاكة، بها وبنا... من هنا يستكمل أبو عمار بمرضه صحته، كأنه يذكّرنا بمصادر هذا المرض، فهو بالإضافة الى العناء على فلسطين، كان نتيجة للعناية بها. فهذا الرجل لم يكن معروفاً متى ينام ومتى يذهب الى مواقع الخطر ومتى يعود ومتى يأكل؟ الى ذلك كان يصلي الفجر ويكتب افتتاحية فلسطين الثورة، ويعود الى دفاتره الحمراء يضخّ فيها ما رأى وما سمع على مدى يومه وليلته.. يختم بالقرآن مع الفجر وينام ولا يتأخر عن الدوام، إلا إذا سافر من أجل فلسطين، وفي غيابه تنام فتح ومنظمة التحرير، يشعر خصومه من اخوته، والمقربون منه، بالفراغ؛ لأن الخصوم لا يجدون جمالاً في خصومتهم لأحد غيره... وهو يعرف كيف يثيرهم ثم يستوعبهم. أما المقرّبون فإنهم أبناؤه الذين لا يهنؤون إلا إذا قرّعهم أو قيّمهم. 

كثيرون هم الذين يستطيعون الكتابة عن ياسر عرفات المشكلة او الاشكالي والذي إذا ما حلّت مشكلته او انحلت أحدث ذلك فراغا وسكونا.. غير انني أراني ملزما باللمسة الذاتية في الكتابة عنه، تعبيراً عن مشكلتي الشخصية معه والتي لم أبحث لها عن حل، بل كنت أيامها آمل ان تصير الى تعقيد أكبر. 

لقد أتيح لي ان أكون قريباً منه أحياناً بالمعنى اليومي، من منزله في الرواس الى الرحلة الدرامية الى ايران بعد نجاح الثورة بأيام. وكنتُ على غيره ممن هم أقرب مني اليه لأنهم يعاينونه ويعانونه أكثر.. لقد أُتيح لي ان اذهب من وجهه الى عمقه، عرفته وهو يصلّي وعرفته وهو يشتم الخطائين ثم يتوب عليهم، إذ يتوبون.

عرفته يحزن ولا ينكسر ويفرح ولا يطغى ويصبر ولا يقعد ويبحث في لحظات اليأس عن ذبالة الأمل، وفي لحظات الرجاء عن أسباب الحذر، عرفته يتعامد عندما يُغلب، ويتواضع عندما يَغلب، رأيته يحب من دون حساب ويكره بحساب، يحاسب بحساب ويسامح من دون حساب، وكأنه متشبث بالنسيان صيانة للتاريخ وشرطاً للمستقبل. 

وما ذلك كله إلا لأن فلسطين في القلب والعقل والدم، كانت همّه، مجمع همومه، ودونها تهون كل الهموم.. من هنا جاءت رمزيته المكثفة، ومن هنا كان أهل الصفاء والحب ممن خاصموه او ناكفوه لسبب او لآخر، وجيه او غير وجيه، جاهزين للعودة الى محبته.. وهم الآن جميعاً أحباب محبون، خاصة في هذه اللحظة التي عزّت فيها الرموز واستوى أبو عمار وكأنه استثناء.. ومن هنا هذا الخوف عليه، على الرمز في المرموز وعلى المرموز في الرمز. 

ومن البداية.. ورغم كل التعقيدات والالتواءات، كنا نؤمن بأن فرادة ياسر عرفات ليست بدعاً في فلسطين، بل هي أقرب الى ان تكون المعادل الموضوعي لفرادة الشعب الفلسطيني، وأبو عمار يرفد هذه الفرادة ويسترفدها، يغترف منها ويصبّ فيها، ليشرب منها ويسقيها، ومن هنا ثقتنا بأن ياسر عرفات معافى في هذا الجسم الفلسطيني، جسم الجبّارين العصي على جراثيم الفتنة. 

أما الحمى التي تلمّ بهذا الشعب دائماً وتظهر أعراضها في كل قسماته وفي وجه عرفاته، ولا تنال من وعيه وعقله، فإنها الضمانة لأن يستمر الجسد الفلسطيني المجرَّب والمدرَّب في إنتاج مضاداته الحيوية حتى لو شحّ عليه من شحّ وجفاه من جفا من الجُفاة، الى ان يتحقق بعض المرجو او الممكن من الدولة المستقلة أمام عيون أبو عمار واخوته في "فتح" وأبناء عمومته في الشعبية والديمقراطية وحماس والجهاد وغيرها.. وأهله على طول فلسطين وعرضها. 

إن كتابتي بهذه الصراحة والمودة والرجاء عن الرئيس ياسر عرفات هي في الوقت نفسه رسالة منّي الى كل من تورّطت في محبتهم أقول فيها مباشرة ومن دون تردّد بأن الحب الحقيقي لا يمكن ان يتحوّل الى كراهية، أما الاتفاق والاختلاف... فمسألة أخرى.. تحدّينا الحقيقي ان نحب من نختلف معهم، او اختلفنا معهم.. أما ان نشترط الحب بالتوافق دائما.. فهذا ليس حباً، لأنه مستحيل... الى ذلك فإن هذا الكلام في لحظة الخطر على حياة ياسر عرفات له معنى آخر.. انه الحب للحب.. خاصة وان عرفات ليس له ورثة ليوظف الكلام لديهم.. أما اخوة عرفات فإنهم ليسوا ياسر عرفات.. وهذا ليس نقصاً فيهم، بل ربما كان ذلك من أسباب تجديد مسيرة ياسر عرفات وتطويرها.


*("الايام" الفلسطينية 12/11/2004)