عرفان نظام الدين

2015-12-09


عاشق فلسطين

 بقلم: *عرفان نظام الدين 

خلال شهر رمضان المبارك طويت صفحتان مشرقتان من تاريخ العرب المعاصر ستبقى آثارهما وذكراهما حيتان على مدى السنين: صفحة رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الذي انتقل الى رحمته تعالى بعد حياة حافلة بالعطاء والحكمة والعمل الجاد والخير في خدمة وطنه وشعبه وأمته العربية والإسلامية، وصفحة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات القائد والزعيم والرمز للشعب الفلسطيني على امتداد أربعين عاماً بعد غيبوبة بين الحياة والموت لم يعد بعدها أي أمل بعودته الى ممارسة مهامه الرسمية والوطنية. واذا كان الموت قد جمع بين الراحلين الكبيرين فإن الفوارق بينهما كانت كبيرة من حيث الظروف والامكانات والأساليب، فالشيخ زايد مارس الحكم لمدة 35 سنة في بلد نال استقلاله وأنعم الله عليه بالخيرات والثروات وتمكن بحكمته ان يوحده ويشرف على كل شاردة وواردة من مسيرة ازدهاره وإنمائه وسط أطماع أجنبية محدودة لا تقاس ولا تقارن بالأطماع الصهيونية في فلسطين. وقاد الشيخ زايد السفينة بلا منازع ولا منافس ليوصل البلاد الى شاطئ الأمان ويؤمن لشعبه حاضراً زاهراً وغداً مشرقاً وأمناً وأماناً واستقراراً ندعو الله ان يستمر ويتعزز في عهد الأبناء بعد ان ترك لهم الوالد وحدة متينة وكياناً مستقراً وحياة سياسية لا اهتزاز فيها ولا حزازات وحساسيات في واقع يصح فيه القول بأنه النظام الوحيد في العالم الذي لا توجد فيه اية معارضة.

اما الرئيس عرفات فقد كان رئيساً لوطن محتل من قبل عدو غاصب لا يعرف الرحمة، و كيان مبعثر لم يحظ بنعمة الاستقلال ولا برحمة الاستقرار، وشعب متباين الاهواء والانتماءات من أقصى اليمين الى اقصى اليسار ومنظمات وفصائل لا تعد ولا تحصى لم ترحم عرفات ولم تحسب حساب العدو المشترك فاختلفت وتنازعت وتباعدت وتحاربت وانفردت في احيان كثيرة في مواقف وأعمال وممارسات وقرارات أضر الكثير فيها بجوهر القضية ومسيرة النضال وعرقل تحقيق حلم إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.

يضاف الى ذلك ان عرفات انطلق من نقطة ما تحت الصفر: نصف شعبه مشرد بلا وطن يعيش في شتات المخيمات ومشارق الأرض ومغاربها، والنصف الآخر يرزح تحت نير احتلال مجرم يسلب الأرض ويسرق الخيرات ويدمر البنى التحتية ويحاول نزع الهوية الفلسطينية تمهيداً لمحوها وينتهك الحرمات ويدنس المقدسات ويقضم الوطن الفلسطيني قطعة قطعة ليقسّمه الى اشلاء ويحاول جاهداً ان يجعل من الدولة المستقلة حلماً مستحيلاً.

بلا هوية ولا إمكانات مادية وعملية وعسكرية ولا وحدة وطنية ولا اعتراف كامل ولا محيط داعم ولا تعاطف دولي استطاع عرفات ان يصمد اكثر من 40 سنة يمارس مهامه كساحر تارة، وكبهلوان يقفز على الحبال تارة اخرى، يعاند تارة ويساير تارة اخرى، يحارب مرة ويتظاهر بالاستسلام مرة أخرى، يرفع غصن الزيتون ومعه البندقية ويتطرف في العلن ويفاوض باعتدال في السر، يبكي ويضحك في آن ويحقد ويسامح ويغضب ساعة ويهدأ ساعات، يجمع الاضداد ويحالف الاصدقاء ثم يهادن الاعداء...

لقد كان عرفات يمثل قمة التناقضات في شخصيته: ماكيافيلي وأفلاطون الحاج أمين الحسيني والدكتور جورج حبش، الملك حسين وجمال عبد الناصر، الجنرال ديغول والماريشال بيتان، الرئيس حافظ الأسد والملك الحسن الثاني او الرئيس بورقيبة، بريجينيف وغورباتشوف. ينتقل في غمضة جفن من ذروة النضال المسلح الى قاع السلام المنقوص في أوسلو وما تلاها... يجتهد ويصيب وهو يعتقد انه إن لم يحصل على أجرين فسيفوز بأجر واحد. ارتكب الكثير من الاخطاء ولكنه حقق الكثير من الانجازات والمكاسب لشعبه الذي استعاد هويته على رغم أنف الاعداء وتكرس الاعتراف به وبحقوقه المشروعة وفي مقدمها حقه في إقامة دولته المستقلة.

وجهت له اتهامات كثيرة، وجل من لا يخطئ، من بينها استئثاره بالحكم والسلطة والقرار والمال.

المأخذ الكبير عليه انه لم يعمل على تكوين قيادة جماعية نظيفة وقادرة على تحقيق الاستمرارية في الحكم ومنع حدوث فراغ في غيابه حتى ولو اضطر للتنحي والتحوّل الى أب روحي للشعب والثورة والكيان. وهذا خطأ ارتكبه كثير من القادة التاريخيين العرب على رغم الاعتراف بالفارق الكبير بين خلافة السلطة وخلافة القيادة والزعامة وبين قدرات القائد ودوره وبريقه وبين إمكانات الرئيس وقدراته وفرص نجاحه.

ففي غياب زايد وعرفات تتغير صورة التاريخ العربي المعاصر في شكل شبه كامل وتتحول مجرياته 180 درجة: بريقاً ودوراً وسياسة وقراراً وقدرة على رسم معالم المستقبل، لتكتمل خلال أقل من ثلاث سنوات مع غياب قادة تاريخيين مثل الملك حسين والملك الحسن والرئيس حافظ الاسد وأسر الرئيس صدام حسين وقبلهم بسنوات الملك فيصل بن عبدالعزيز والرئيس جمال عبدالناصر والرئيس التونسي الحبيب بورقيبة.

والشعب الفلسطيني المنكوب سيكون اكثر إحساساً وقرباً من هذا التغيير بفعل ظروفه العصيبة والمؤامرات التي تحاك له وارتباطه العاطفي والعضوي والوطني برمزه الكبير والوحيد الملقب بالختيار والوالد والقائد والزعيم وسيجد اي خلف له صعوبة في سد الفراغ الذي تركه عرفات... فهو قد يتمكن من ممارسة مهامه كرئيس اذا أحسن اختيار معاونيه ورص صفوف الفرقاء الفلسطينيين من كل الاتجاهات وعرف كيف يتعامل مع الداخل والخارج. الا ان أي خلف لعرفات لن يتمكن ابداً من الوصول الى ما وصل اليه سلفه من شعبية و”كاريزما” على قيادة الجماهير وتحريك عواطفها وكسب ودها وكبح جماحها في بعض الاحيان، وهذا ما عانى منه كل من خلف زعيماً شعبياً وقائداً فذاً ورئيساً جماهيرياً محبوباً ورمزاً وطنياً وتاريخياً.

وقد التقيت بعدد من الرؤساء الذين خلفوا زعماء التقيتهم من قبل ولمست الفارق في الممارسة والعقلية والقدرات. فصحيح ان لكل شيخ طريقته ولكن الجماهير هي الحكم، ولو كانت على خطأ في اختياراتها ومحبتها وتفضيلها وفي بعض الاحيان في تقديسها لرموز معينة على رغم ما ارتكبوه من اخطاء... وخطايا.

فللنجاح في الحكم لا بد من توافر عوامل أساسية مع الاعتراف بأن الحظ قد يكون واحداً منها، ومشكلة بعض الرؤساء والسياسيين ان حظهم العاثر حملهم الى الحكم بعد زعماء تاريخيين وقادة لهم وزنهم الكبير في الداخل والخارج مما يؤدي الى تعثر خطواتهم ووقوعهم في حبائل الحيرة والتردد في حسم أمورهم باتخاذ قرار واحد من خيارين: التقليد أو التجديد. فمشكلة هؤلاء ان بصمات “الزعيم الراحل” او السابق تظل راسخة في كل مكان وصورته تبقى مرتسمة في أذهان الناس. ومن هنا يصبح القرار صعباً والمقارنة تطل بشبحها عند كل خطوة يتخذها الخلف. وقد اسـتطاعت قلة من الزعماء الافلات من قبضة المقارنة والهرب من شبح السلف فيما سقطت الغالبية في شراك ذكرياته وقتلت بيد ظله المخيم على الاجواء. كما حاول البعض الآخر محو آثار السلف وإزالة صوره ومنع ذكر إسمه وتشوبه صورته ولكن من دون جدوى، فقد بقي الرمز رمزاً على رغم سلبياته ولم يحتل الخلف مكانته على رغم ما يكون قد حققه من إنجازات. والرئيس عرفات قائد تاريخي تحوّل الى اسطورة، ولولا الايمان بأن الموت حق وأن “كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاحسان” وأنه لا راد لارادة الله عزّ وجلّ لما صدق الناس بأنه مات وظنوا بأن سوبرمان لا يحرق ولا يغرق ولا يخرق!

فقد تعرض لعشرات محاولات الاغتيال بعضها مباشر من طريق قصف مراكز قيادته من عمان الى بيروت فتونس وغزة وبعضها الآخر من طريق إطلاق الرصاص عليه أو دس السم في طعامه أو تفجير سياراته. وهناك محاولات اغتيال اخرى لم يعلن عنها من بينها تجنيد احد مرافقيه من جانب العدو، ولكن ضميره صحا فجأة عندما طلب منه ان يقتل قائده فانهار واعترف بخيانته قبل ساعات من التنفيذ. وقد نجح عرفات في النجاة من كل هذه المحاولات بفضل ايمانه بالقضاء والقدر وقدرته على الاحساس بالخطر حيث كانت تنتفض حاسته السادسة في كل مرة فيغير برامجه ومواعيده وخطوط سيره وأسفاره قبل ساعات أو لحظات من المحاولة. كما ان اجراءات الأمن الدقيقة أسهمت في تخليص "الختيار" من مخاطر كثيرة... فقد كان لا ينام في منزل واحد لليلتين كما كان يسافر كراكب عادي بأسماء مختلفة ويتنكر تارة بزي راهب وتارة أخرى بزي شيخ وتارة يحلق ذقنه وتارة اخرى يطيلها او يضع لحية مستعارة ويستعمل باروكات شعر متنوعة الى ان حصل على طائرة خاصة تقله في سفراته كادت تودي بحياته مرة عندما سقطت في الصحراء وخرج منها سالماً بأعجوبة.

وقد عرفنا عرفات عن كثب لمدة ثلاثين عاماً وأجريت معه مقابلات صحافية وتلفزيونية عدة وقامت بيني وبينه صداقة متينة شابتها خلافات حادة في بعض المراحل، وهذا موضوع مقال آخر سأتحدث فيه عن انطباعات شخصيته باذن الله. وقد سألته مرة: ألا تخاف الموت بعد كل هذه الاخطار؟ فوضع يده اليسرى على كتفي ورفع يده الثانية الى أعلى وهو يقول: المؤمن لا يخاف، واذا جاء أجلي فسألقى وجه ربي راضياً مرضياً وسعيداً، الا انني أبتهل الى الله سبحانه وتعالى ان لا يميتني على فراشي بل هناك في ساحات النضال، وعلى أرض فلسطين الحبيبة... أنسيت ان شعارنا الاول هو "النصر أو الشهادة"!؟

نعم كان حلمه ان يموت شهيداً، وهو ما أكده عندما اتصلت به في المقاطعة بعد بدايات حصار رام الله مطمئناً فرد علي بنبرة جادة وصادقة: "لا تخافوا علي... فأنا قريب باذن الله من تحقيق حلمي... إني أرى مآذن القدس ورائحة الجنة... لا تخافوا علي فأنا على قاب قوسين أو أدنى من تحقيق أمنية اي مؤمن وهي النصر او الشهادة".

ولكن السفاح شارون لم يرد ان يمكنه من ذلك فقد كان يصب جام حقده على عرفات ويلاحقه منذ سنوات طويلة ليقضي عليه بعد ان تحوّل الى هاجس يومي يؤرق مضجعه خصوصاً بعد فشله في بيروت وهزيمة قواته وانسحابها المخزي من لبنان بعد غزو عام 1982، الا اذا ثبت ان اسرائيل وراء تسميمه فأن عرفات سيتحوّل الى شهيد ويرتد كيد شارون والمحتلين الى غيرهم. واليوم بعد غياب عرفات أو تغيبه لم يعد جائزاً الاستسلام للعواطف فالواقع مظلم والمرحلة حرجة وصعبة ومسؤولية الفلسطينيين شعباً وقيادة وفصائل ومنظمات وشخصيات تاريخية وسياسية لا حدود لها، والتعامل مع هذا الواقع يتطلب حكمة ومرونة وتعاوناً وتآلفاً ووحدة وطنية ووحدة قرار وبندقية وعمل مشترك.

ولا يجوز ابداً  التنافس على منصب او الصراع على سلطة هزيلة، فالقضية اكبر من القيادات والاشخاص، والاعداء يتربصون بالفلسطينيين لتنفيذ ما تبقى من مخططاتهم التوسعية ومؤامراتهم للقضاء عليهم وعلى حقوقهم المشروعة ومنع قيام دولتهم المستقلة.

حلم شارون بعد القضاء على عرفات، دفن القضية الفلسطينية وإشعال نار حرب أهلية وقيام فتن داخلية يلتهي بها الفلسطينيون، ولهذا لا بد من الحذر واليقظة والتضامن في هذه الأيام العصيبة لتفويت الفرصة عليه وإحباط مخططات وتحويل جهنمه الى نار تحرقه غيظاً وكدراً... وفرصته بغياب عرفات الى غصة تخنقه لينقلب السحر على الساحر.

وليكن الرد بتشكيل حكومة وطنية تضم كافة الفصائل والمنظمات بما فيها حماس والجهاد. ووضع خطة طوارئ لمواجهة الموقف وعدم القيام بأي عمل أو خطوة انفرادية في هذه المرحلة، وإعلان مبادرة سلام تتمسك بالحقوق والمعاهدات والاتفاقات وبينها الاتفاق على اعلان قيام الدولة المستقلة عام 2005، حتى تضع اسرائيل والولايات المتحدة أمام مأزق لا مخرج منه الا بالرضوخ. فقد زعمت اسرائيل ومعها الولايات المتحدة في عهد ادارة بوش انه لا مفاوضات ولا سلام في ظل قيادة عرفات... وبغيابه ينتفي هذا الزعم وتزول الذرائع، خصوصاً أن بوش في ولايته الثانية تعهد بدعم قيام الدولة المستقلة.

الشعب الفلسطيني مطالب بتوحيد صفوفه وإعطاء فرصة لقيادته وفسحة لالتقاط الأنفاس بعد سنوات من الاحداث الجسام والأيام العصيبة... والدول العربية مطالبة برعاية هذه القيادة ومساعدتها على ايصال شعبها الى بر الأمان في المرحلة الانتقالية الصعبة... ودول العالم والولايات المتحدة على رأسها مدعوة لبذل جهود مضاعفة لايجاد سلام عادل وشامل قبل ان يزداد الوضع سوءاً ويعم الدمار والفوضى في المنطقة والعالم. فليكن في غياب عرفات وموته حياة للسلام حتى يرتاح في موته بعد ان تعب في حياته كثيراً من أجل شعبه وقضيته.

لقد أخطأ وأصاب وكان في بعض المراحل يجمع بين الداء والدواء والمشكلة والحل والحرب والسلام... لقد كان زعيماً أسطورياً لم يحب في حياته سوى فلسطين مهما قيل فيه ومهما فعل... ولعل أبلغ وصف له كان من حكيم الثورة الدكتور جورج حبش عندما خاطبه قائلاً أمام المجلس الوطني: يا أبا عمار: ويلي منك وويلي عليك !


*("الشرق الاوسط" اللندنية 12/11/2004)