عدلي صادق

2015-12-09


استفتاء أخير للزعيم الأخير
 بقلم:عدلي صادق
 

سبحان الحي الباقي يا أبا عمار، فكل نفس ذائقة الموت، ولكن: أي دمع، أو أي حزن، يليق بك، يا سمة أيامنا وأوقاتنا ومعاركنا، يا علامة روحنا، وهويتنا، ورفيق أحلامنا الجميلة؟!

مؤمناً عشت يا أبا عمار، وظللت قابضاً على الجمر، لا تفارق تفاؤلك، بأن يلوح الضوء في نهاية النفق، بقيت على عهدك لله، أن تقطع المشوار الطويل، وعلى أن تمشي كل الدروب، بشجاعة المجاهدين، وصدقت ما عاهدت الله عليه، حتى قضيت، شهيداً، دون أن تتبدل تبديلا!

لا نامت أعين الجبناء يا أبا عمار، طوبى لك يا سيّد الرجال، وأنت تضطجع اليوم في ثرى فلسطين، مغدوراً بالسم الزعاف، وفي البقعة التي جابهت فيها القوة الغاشمة، في ذروة عربدتها التي لم تجد في هذا العالم الغاشم من يردها عن سفالتها، وناديت بصوتك المجيب: شهيداً شهيداً.. لا طريداً ولا أسيراً!

ظنوا أنهم قد اصطادوك، أو أن خديعتهم سوف تنطلي عليك، لكي تجعل من القوة الحية الدافقة، للحركة الوطنية الفلسطينية، التي أنت رمزها وقائدها، قوة للدفع المضاد، لكسر الأمنيات الفلسطينية، أو لكسر الروح الفلسطينية، أو لنسف الوحدة الوطنية. سايرت التسوية، وظننت أنهم سيحترمون العهود، طالما أن هناك رُعاة كباراً، من العالم، كنت تعدّهم بلداً بلداً، كلما جئت على ذكر الشهود والرعاة، لكنهم في النهاية انقلبوا على التسوية، بل إن الذئب العجوز شمعون بيريس نفسه، بعد أن انتقل من شراكة رابين إلى شراكة شارون، حاول أن يقطع عليك سياق أحلامك، وأن يبدد تفاؤلك، بأن ترى الضوء في نهاية النفق، فطرح فكرته عن التسوية المشوّهة التي يريدها شارون على مقاسه، قائلاً: لقد وجدنا الضوء وبقي أن نحفر له نفقاً. كانوا يريدونك أن تغادر نفسك وقناعاتك وأمنياتك، وأن تحفر نفقاً في الاتجاه المضاد، لتخالف مصالح شعبك، لكنك كالعادة، كنت الرقم الصعب، فأصبحت شوكة في حلوقهم، ودفعتهم إلى الخفة، والى السلوك المشين، الذي تخجل منه دولة هشة من جمهوريات الموز القديمة، فكان الحصار، وكانت المؤامرة!

تعجز الكلمات يا (ختيار) عن أن تفيك حقك. كم هي طويلة طويلة، رحلتك، فلكل فلسطيني في المنفى وفي الوطن حكايته الخاصة والحميمة معك، في المخيمات، وفي المدن، وفي القرى والبوادي، وحيثما حللت أو أوصلتك الدروب يا (ختيار) كانت عيون الناس مرايا ترى فيها وجهك، وتسبر أغوارهم وعزائمهم، لكي تتأكد بنفسك من ملامح الرحلة، ومن ملامح الأمنية، لقد اتخذت من عيون الناس وهمساتهم بوصلتك التي تدلك على موقع وزمن السفينة الكنعانية المبحرة في مياه عالية الموج، فترشدها إلى الصواب، وسط الأنواء!

يفتقدك المناضلون يا أبا عمار، ولن تخدعنا دموع التماسيح، ولا حتى ساعات التغطية الإعلامية الفضائية للحدث الجلل. لن ننسى أن الأنظمة العربية، وإعلامها وإعلام الدنيا الظالمة، ومعظم الذين أجزلوا لك العطاء البروتوكولي، في وجعك الأخير، وفي احتضارك الذي أوجعنا، وفي موتك وفي تشييعك، هم الذين أسهموا بهذا الشكل أو ذاك، في أن تكون سياسة عزلك وحبسك، ممكنة ومفهومة، أو مبررة، بل إن هؤلاء جميعاً، واجهوا شبق شارون إلى قتلك يا (ختيار) بالتوافق المعيب، على ضرورة إنهائك سياسياً، وليس محاصرة مجرم الحرب شارون!

نم قرير العين يا أبا عمار، فأبناؤك من بعدك، سيتابعون المسير، ويحرسون المصير. سرعان ما ستنكشف مزاعم الفاشيين المحتلين، وكاذبي الإدارة الأمريكية، وبؤس من يصدقونها، فها أنت قد غبت، وسقطت الذريعة، وربما يتذرعون بفوضى يدفعون بعضنا إليها، أو يتذرعون بوفاء المناضلين لك يا أبا عمار، لكي يستمر جفاؤهم لحقوقنا. نم قرير العين وسيرى الأحياء منا، ما تذهب اليه الأحوال، ولن نكون إلا في صلابتك وفي يقظتك. نم قرير العين وليرحمك الله يا (ختيار)!

في التشييع، وأمام كل تلك الأمواج، بل أمام كل هذه البحور الهائجة من الفلسطينيين، التي ودّعت شهيدها القائد الرمز، ياسر عرفات، وأمام الجماهير التي أقامت مآتم الفقيد الأب، حيثما هي، وفي أماكن سكناها، لا نملك إلا أن نحمد الله، على أن الرجل الذي مضينا وراءه، على امتداد كل تلك السنين، مات واقفاً، عاش كبيراً واستشهد بطلاً كبيراً، وقضى نحبه، بما يليق بتراثنا الكفاحي، وبما يجعل الذين ذهبوا بعيداً في ظنونهم، لا سيما عند المنعطفات يحسون بالحرج، أمام أنفسهم.

أما الذين شككوا في حقيقة الإجماع الشعبي الفلسطيني، على شخص ياسر عرفات، وهم من الأعداء وتابعيهم، فلا نتوقع أن يشعروا بالخجل، ذلك لأنهم يفتقرون أصلاً، إلى هذه العاطفة من حيث هي إحساس بالخزي وبالذنب، فقد كانت دوافعهم معروفة، لاستهداف ياسر عرفات، في حياته، والتشكيك فيه، ومغالبته، ثم التطيُّر منه بعد موته!

مجرم الحرب شارون، مثلاً، وبكل ما توافر له من وسائل القوة الأمريكية، وبكل ما امتلك من قدرة، على دعم الرواية الأسطورية الملفقة بالجريمة وبسفك الدماء، هل يمكن أن يحظى بمثل هذا التبجيل، حتى من جمهرة المهووسين الذين سلخ من أجلهم كل تلك السنين الطويلة الآثمة من حياته؟! وبالطبع لا يستقيم السؤال عن موقف شعوب العالم، حيال موت مخلوق كشارون، أو موت أحد الذين تآمروا عليه أو جافوه في سجنه!

هل ثمة ديمقراطية في هذه الدنيا، أفرزت زعيماً حظي بمثل هذه المحبة الشعبية العارمة، وبمثل هذا الاحترام، من قبل شعبه وأمته، مثلما حظي ياسر عرفات؟!

هل رأى بوش وبعض التابعين، بأمهات عيونهم، نتائج الاستفتاء الذي لن يحلموا لأنفسهم بمثله؟! هل أحست ضمائرهم الميتة بصوت الحقيقة الذي أسمعته الجماهير لكل من يتوخى الحقيقة؟ هل أحسوا بأنهم كانوا يكذبون، ويمارسون سياسة قهرية، ويحاولون عبثاً، وبمنطق القوة الغاشمة، أن يجعلوا مشروع ياسر عرفات وأحلامه وسياسته، أمراً مغايراً لأهداف شعب ياسر عرفات، وتمنياته وطموحاته؟ هل خجلوا الآن؟!

ترقرقت الدموع في المآقي، كأنما الكوفية والبزة العسكرية، والمسدس، هما سر اطمئنان باب مفقوداً، فأبو عمار، السياسي المنبثق عن الفدائي، أو الفدائي المهيأ للسياسة، هو وحده القادر على الحفاظ على سمات الشخصين والدورين، وأن يوائم بينهما، لأنه هو، وليس أحداً غيره، الذي قاد شعبه، منذ أن كان مجرَّد جموع أو تجمعات، في المخيمات أو في المنافي، أو تحت الإدارات العربية، إلى أن أصبح شعباً موحَّد الوجدان، ذا كيانية سياسية، وذا بوصلة، فقد أحس الكبار باليتم، لفقدان الأب، الذي منح الناس الإحساس بأن للعائلة الفلسطينية كبيراً يسهر على مصالحها وعلى مستقبلها، عبر حقبة زمنية طويلة. فأبو عمار، هو الذي كانوا يقصدونه، في الضيق والمرض، فيواسيهم وينصفهم ويأخذ بيدهم، ويأمر بتغطية نفقات استشفائهم، فأبو عمار المقاتل، هو نفسه أبو عمار الإنسان، وهو أبو عمار القائد السياسي صعب المراس. هو السلس الطيّع المتسامح، في معاني الرحمة والتراحم والعلاقة الإنسانية، وفيما يتصل -حتى - بالكرامة الشخصية، لكنه العنيد الصلب، فيما يتصل بكرامة شعبه، وبأمن سفينة الاستقلال والحرية!

في استفتائه الأخير، فاز أبو عمار بالإجماع كزعيم أخير، يطوي عصر الزعامات، ويستهل عصر تسيير الأمور، بالقادة الذين يختارهم الناس. لم يكن الزعيم الذي أغمض عينيه نهائياً، مضطراً لإخفاء شيء ولا مضطراً لدعاية انتخابية. شباك العنكبوت التي بدت كامنة على بوابة أسرار الرجل الكبير، تفككت ليروي كل منها الحكاية لنفسه، ولمن حوله، عن عرفات الذي أمسك بها وبغيرها، علناً وبشكل مستتر، بما يُصدَّق، بالمألوف وبغير المألوف!

سقطت رهانات الأعداء الكاذبين، الذين سرعان ما يدركون بأن قتل ياسر عرفات إنما يمثل قتل إمكانية نيل إجماع الفلسطينيين، على مشروع للتسوية، فمن كان يتحدى ويقاتل، هو الأقدر على أن يُبرم اتفاقاً. لقد خرج ياسر عرفات من صلب هذا الشعب، وبرحيله رد الأمانة للشعب، الذي هو مرجعية كل شيء، بصرف النظر عن الطارئ والمؤقت. ولن يتزحزح الناس عن أمنيات الزعيم الأخير، التي بدت، من خلال الاستفتاء الأخير، هي ذاتها، أمنيات الصابرين والمكافحين، وقابري أبنائهم، والصامدين في السجون، والقابضين على الجمر!