عدلي برسوم

2015-12-09


عمار يا مصر: عرفات..شهيدا
 بقلم:عدلي برسوم

في الساعات الأخيرة من شهر أغسطس 1982 في فندق صغير بحي الحمراء ببيروت جلست وحيدا اترقب موعدا للقاء ياسر عرفات.. لم يكن وقتها الرئيس عرفات.. بل كان الأخ أبوعمار. 

ودقت الساعة الثانية عشرة عند منتصف الليل.. وبهو الفندق صامت إلا من صوت زخات الأسلحة الآلية التي تتردد بين الحين والآخر.. خاصة من شرفة المنزل الذي يواجه الفندق. 

وفجأة امتلأ البهو بعدد كبير ممن يرتدون الملابس العسكرية.. وزخات الرصاص التي كانت تسمع في الخارج زادت قليلا.. وتقدم أحدهم مني قائلا: سيدي.. ها نحن نلبي طلبك تفضل.. 
وقمت من مكاني متوجها نحو باب الفندق ولكنه استوقفني وأشار إلي باب جانبي وقال: تفضل في هذه الغرفة. 

ولم أفهم.. فقد كان كل شيء في بيروت المحاصرة غامضا ومخيفا.. والموت قريب من كل إنسان يعيش في بيروت الغربية وقتذاك. 

* * *

نعود إلي الوراء ثلاثة أيام.. كنت قد وصلت بيروت الغربية بعد رحلة قاسية وعصيبة بدأت من الميناء القبرصي لارنكا حيث حملتني سفينة صغيرة متجهة إلي ميناء جونيه قرب القطاع الشرقي من بيروت. 

وقذفت بي السفينة علي رصيف جونيه عند منتصف الليل أي بعد رحلة استغرقت قرابة 15 ساعة.. وهي تدخل ببطء قاتل المياه اللبنانية بسبب حصار البحرية الإسرائيلية.. وأوامرها مرات ومرات للسفينة بالتوقف وأسئلة عديدة للقبطان عن حمولة السفينة وعدد ركابها.. وهل بينهم من يثير الاشتباه.. وهل.. وهل.. وكنت أنا الوحيد غير اللبناني علي ظهر السفينة وزعمت للمتطفلين حولي أني صحفي مصري أقصد فندق الكسندر في بيروت الشرقية فقد كان ذكر اسم بيروت الغربية كفيلا بأن أفقد حياتي.. فقد كان جواسيس الكتائب لا يخفون أنفسهم عن عيون سائر الركاب! 

وكنت أعرف مسبقا أن فندق الكسندر هو ملتقي الصحفيين الإسرائيليين والغربيين الذين يغطون حصار بيروت أو علي وجه التحديد يحاصرون ياسر عرفات والمقاتلين الفلسطينيين.. وكثيرا ما كان موشي ديان وزير دفاع إسرائيل في ذلك الوقت يتردد علنا علي هذا الفندق. 

وقبل أن أصل إلي باب الفندق حتي اتجه نحوي عدد من حراس أشداء يقولون في غلظة إن كل غرف الفندق مشغولة..! 

كانت خطتي أن أدخل بيروت الغربية من خلال أحد المعابر التي تولت الإشراف عليها في ذلك اليوم القوات الفرنسية والإيطالية تحت علم الأمم المتحدة بدلا من قوات الكتائب.. ولم يكن هناك من سبيل إلي دخولي بيروت الغربية غير ذلك.. فقد كان الحصار الإسرائيلي خانقا. 

ونجحت بفضل كرم سائق أجرة "أرثوذكسي".. وكان الأمر بالطبع مصادفة جميلة.. ولم يكن اللبنانيون الأرثوذكس يشعرون بمودة نحوهم من جانب الكتائب.. وكانوا هم بدورهم حريصين علي "عشرة العمر" مع السنة والشيعة وكل القوي الوطنية اللبنانية المتمركزة في بيروت الغربية.. ولم يتركني الرجل حتي أدخلني فندق "فيرنا" في منطقة الحمراء.. وبالمصادفة أيضا اكتشفت أنه فندق يخضع لحماية منظمة التحرير الفلسطينية وأن كثيرين من كوادرها يأتون إليه.. وأن به كهرباء وماء ومطعماً والحرارة لا تنقطع عن تليفوناته وبخاصة الاتصالات الدولية.  

* * *

دخلت الغرفة الصغيرة التي أشار إليها الصديق الفلسطيني وفجأة وجدت نفسي وجها لوجه مع ياسر عرفات.. استقبلني مرحبا بشدة.. فقد كنت قد قابلت صلاح خلف "أبوأياد" الرجل الثاني في حركة فتح.. والذي كان يكرر دائما أن أول صحفي اخترق الحصار وجاء إلي بيروت الغربية كان من مصر الغالية وإن كنت وقتها أعمل مديرا لتحرير جريدة الخليج بدولة الإمارات واعترف.. أني وقفت برهة أحملق في وجه أبوعمار.. أنه جاء إلي الفندق في تلك الأيام العصيبة التي لم يكن أحد يعرف أين سيقضي ليلته.. كان يبدل مكان نومه ليلة بعد أخري فقد كان جواسيس إسرائيل يلاحقونه. وكم من مرة نجا بأعجوبة من غارات تستهدف أماكن يقيم بها.. ولكنه نتيجة يقظته الفائقة كان يترك المكان قبل وصول الطائرات الإسرائيلية بدقائق قليلة. 

وكان يقود شبكة الجواسيس داخل بيروت الغربية وقتذاك كولونيل بالمخابرات الإسرائيلية تخفي في صورة لبناني "عبيط" يبيع السجائر والمرطبات في كشك صغير بقلب بيروت.. وبالطبع لم ينكشف أمره إلا بعد مذابح صبرا وشاتيلا وخروج الإسرائيليين من بيروت. 

                                                      * * *

وأدين لياسر عرفات بأخطر حديث صحفي أجريته حتي الآن.. فقد كان ما قاله هو آخر التصريحات قبل أن يغادر بيروت مع مقاتليه إلي تونس.. وفي هذه التصريحات اتهم كثيرا من الزعامات العربية بالتخلي عن القضية الفلسطينية.. لأنهم تركوا إسرائيل تفتك بالأمل الفلسطيني. وبكي الرجل وهو يحكي لي المشهد الأليم للمقاتلين الفلسطينيين وهم مرغمون علي الرحيل من لبنان تاركين وراءهم زوجاتهم وابناءهم وأسلحتهم وعتادهم. كان عرفات يتحدث ويتحدث.. لم يكن في حاجة للأسئلة التي كنت أطرحها.. فقد أشعرني أنه لا يجري حوارا صحفيا عاديا.. إنما كان بالفعل يتحدث إلي العالم كله عن الجريمة الصهيونية الكبري.. كان يطرح قضية شعبه العادلة بصوته ودقات قلبه وشعر رأسه والنور اللامع في عينيه.. والقضية النارية في ملامحه.. كانت ملامحه تنبسط وديعة وهو يتحدث عن أطفال فلسطين.. ثم تشتد وتقوي وتصبح صخرا صلبا وهو يتحدث عن المقاتلين الفلسطينيين الذين قدموا بطولات مجيدة في مقاومة الغزو لإسرائيلي القادم من جنوب لبنان.. ثم يعود صوته رقيقا وهو يقص حكايات الشهداء. 

وتحدث عرفات وقتها عن خيانة عربية بالفلسطينيين وكان أمينا في غضبته فلم يذكر أسماء معينة حتي لا تلحق الإهانة بأي شعب عربي لأن الشعوب العربية كانت في اعتباره الاحتياطي الضخم للثورة الوطنية الفلسطينية. 

وجاء من يهمس له بأن الوقت قد حان ليغادر الفندق لدواع أمنية.. وعندما عانقني مودعا طلت من عينيه دمعتان.. انحدرتا في رفق نحو ابتسامة هادئة مؤكدا أن أبواب الأمل عريضة بلا حدود. 

وفي ميناء بيروت والذي كان مهجورا بفعل الحرب الأهلية اللبنانية.. وقفت علي الرصيف ملوحا بيدي للسفينة وهي تتحرك إلي البحر المتوسط.. وسؤال واحد يدق في رأس كل المودعين.. هل ستصل السفينة إلي غايتها أم مازالت في المؤامرة بقية؟ 

كنت قد أحسست من خلال حواري مع عرفات عشية الرحيل أنه مطمئن لما أعلنته مصر من ضمان لسلامته.. ولعلها الضمانة الوحيدة التي جعلته يقبل الرحيل الإجباري من بيروت. 

وبعد سنوات من النضال في "الغربة" عاد عرفات إلي وطنه.. وانتفضت فلسطين مرات ومرات.. وتصاعدت المقاومة.. واغتالت إسرائيل الكثيرين من قيادات الفصائل.. ولم يضعف حصار عرفات في رام الله من بسالة المقاومة ولم يسجن فدائيتها.

* * *

وسواء عاد عرفات إلي وطنه 

وسواء عاد جثمانه إلي القدس أو إلي غزة 

وسواء وجد مثواه الأخير في أي أرض عربية.. 

فإن القدس ستبقي عاصمة لكل الشهداء. 

وعرفات شهيد من قبل أن توافيه المنية.. ومن قبل أن يثبت أنه مات بسم صهيوني.


الجمهورية المصرية  9/11/2004