عبد العزيز المقالح

2015-12-09


عرفات الحاضر في وجدان أمته
بقلم: د. عبد العزيز المقالح

من المؤكد أنه لا حدود للتداعيات التي سيتركها غياب الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، بعد أن كان في حياته الممسك الوحيد بخيوط القضية، واللاعب الماهر وسط الأمواج والعواصف العنيفة التي أحاطت بفلسطين والفلسطينيين في المرحلة الصعبة والمثيرة، التي وضعته الأقدار في مواجهتها على مدى ما يزيد عن ثلث قرن من السنين.

ومهما تكن الملاحظات التي ساقها خصومه الاقربون على قيادته، فقد أثبتت الأيام، والى آخر لحظة في حياته، أنه فلسطيني ملتزم لم يفرِّط ولم يساوم، وأن استطاع بحنكته ونفاذ بصيرته أن يحقق بعض الانتصارات، وأن يحفظ للقضية توهجها وسخونتها في ظروف كانت هي الأقسى والأسوأ، ليس في تاريخ فلسطين والأمة العربية وحسب، وإنما في تاريخ الإنسانية. وربما أخطأ عرفات التقدير في بعض المواقف، أو تجاوز صلاحيته في هذا الشأن الصغير أو ذاك، إلا أنه ظل حريصاً ووفياً للمبدأ العام، ولدماء مئات الآلاف من الشهداء، وحاول أن تكون سياسته انعكاساً لما تتطلبه الأغلبية من أبناء شعبه من ناحية، ولما يتطلبه الوضع العربي والدولي من ناحية ثانية.

وإذا كانت الظروف العربية، ومن ثم الدولية، قد ساعدته على الاستمرار بعض الوقت في خوض معركة البقاء، وتحقيق الحد الأدنى من الانتصارات، فإن هذه الظروف نفسها قد كانت له ولشعبه بالمرصاد في العشر سنوات الأخيرة، التي اشتدت فيها الاختلافات العربية- العربية، وكاد زمام الموقف فيها يفلت من يديه أكثر من مرة، إلا أن تجربته الطويلة في ممارسة العمل السياسي وعدم الاعتراف بالهزيمة تجاه خصوم الداخل والخارج، فضلاً عن ذكائه المعروف في التعامل مع الفصائل الفلسطينية المتناقضة من منطلق سياسة إرخاء الحبل أو شده، قد أبقى على الحد الأدنى من التقارب معها تحت كل الظروف، وهو الأمر الذي يتميز به، ولا طاقة لغيره من القادة الفلسطينيين الآخرين على القيام به.

لقد عرفت ياسر عرفات عن قرب، وجلست إليه طويلاً، وتناولت معه طعام الغداء والعشاء في منزله الصنعاني أكثر من مرة، حيث جمعتنا أولاً معرفة سابقة بدأت من القاهرة، ثم جمعنا في صنعاء الجوار حيث يقع بيته الصنعاني إلى جوار بيتي، فضلاً عن المشاركة في أكثر من فعالية ثقافية من اجل فلسطين والانتفاضة، وكلها عوامل جعلتني اقترب من الرجل إلى حد كبير، وميزته أنه لم يكن سياسياً متحفظاً أو كتوماً تجاه الأوضاع العامة العربية والفلسطينية، وكان دائماً ما يضع النقاط على الحروف مع كل القضايا والمستجدات، وفي خلافاته الهادئة أو الحادة مع بعض العواصم العربية، وكانت له - رغم تنازلاته الضرورية - معاييره الثابتة التي لا يساوم فيها، مع هامش واسع للمناورة والأخذ والرد، ولعل موضوعيّ العودة والدولة الفلسطينية الحرة المستقلة الفاعلة كان في مقدمة ما كان يحافظ عليه من ثوابت وطنية، وما كان ليتنازل عنها تحت كل الضغوط والظروف، وهو ما أعطاه احترافاً عربياً وعالمياً من جهة، وما جعل الفلسطينيين، بما فيهم المخالفون له، يتقبلون مواقفه باعتبارها الحد الأدنى الممكن في كل الظروف.

إن حيرة الشارع الفلسطيني الآن لا تقل عن حيرة الشارع العربي حول ما سوف يسفر عنه الغياب المفاجئ للقائد ياسر عرفات، وما سوف يترتب على اختيار القيادات الجديدة التي يرضى عنها الشعب، ولا تقبل بالمساومة على الثوابت، تلك التي لم تكن ثوابت فلسطينية وحسب، بل عربية أيضاً.

وتبقى الاشارة إلى أن ياسر عرفات، شأن بقية التاريخيين، سيرحل، وستبقى روحه ملهمة ومهيمنة على مسار الأحداث لوقت ليس بالقصير، ولن تستطيع قيادة جديدة ان تغيِّب الثوابت التي آمن وتمسك بها، لأنها ثوابت كل فلسطيني في الداخل والخارج مهما كانت الضغوط والاجتهادات.


"من كتاب :ياسر عرفات : وتبقى فلسطين "

صامد الاقتصادي  العدد 139-140

 2005