صلاح الدين حافظ

2015-12-09


حامل الحلم الذي لا يقتله السم

بقلم: *صلاح الدين حافظ

لآماد طويلة قادمة، سوف يظل ياسر عرفات، بطل الأسطورة، بل هو الأسطورة نفسها، بمكوناتها الكاملة، تراوح ما بين الحقيقة والخيال، ما بين الصورة ونقيضها، ما بين الحلم والوهم. ومثلما تلمع الأسطورة في البداية كالبريق، تراوغ في النهاية كالسراب.

ما بين هذا كله وذاك، عاش عرفات متربعا على عرش أقدم حركة تحرر وطني في العالم لا تزال حتى اليوم تقاتل طلبا للحرية والاستقلال ودفاعا عن السيادة والكرامة، وحين داهمته النهاية التي لا مفر منها ولا مهرب، أبى أن ينتهي في صمت واهن، لكنه أصر على أن يصوغ عند النهاية دراما إنسانية فاجعة، حتى وهو بعيد عن أرض الحلم الدرامي الذي طال انتظاره.

بغياب عرفات عن الساحة الفلسطينية والعربية والدولية يسدل الستار على عصر الآباء "البطاركة" العظام، قادة الانتفاضة الإنسانية التحررية الكبرى، ضد الاستعمار والاستغلال والظلم والإبادة العنصرية، طلبا للاستقلال والسيادة والكرامة الوطنية، فقد سبقه عبد الناصر، ونهرو، وتيتو، ونكروما، وشواين لاي، وسوكارنو، وسيكوتوري، ولم يبق بعد عرفات إلا نيلسون مانديلا، بعد أن أفلت النجوم الذهبية لذلك العصر الزاهي الأقرب إلى الأساطير!

ومثل كل الزعماء الكبار، حمل عرفات "كاريزما" غلابة، ذات تأثير هائل في المسرح السياسي، منحته قدرات خاصة، وتحديدا القدرة الفائقة على استقطاب شعبه وتوحيده حول كلمته وقراراته، والقدرة الهائلة على الجمع بين الأضداد والمزج بين المتناقضات، وكم في الساحتين الفلسطينية والعربية، من أضداد ومتناقضات، لكنه في كل "مزنق أو مخنق" كان يمرق كالسهم نافذا خارجا بقضيته.

بين الموت والهروب من الموت، نسج القدر جزءا رئيسيا من أسطورة عرفات الدرامية، من حصار إلى حصار أفلت وعاش، حوصر في أحداث أيلول وأفلت في عباءة عربية، وحوصر في لبنان وأفلت على سفن فرنسية بحراسة مصرية، وحوصر بين الرمال والضواري في الصحراء الليبية حين سقطت به الطائرة، وعاش وأفلت، وحوصر أخيرا في رام الله  على أرض وطنه لأول وآخر مرة  لما يزيد على السنوات الثلاث تحت القصف والتهديد والتجويع والحقد الشاروني الرهيب، لكنه للغرابة أفلت من قبضة شارون، وخرج عبر الأردن إلى بلاد الفرنجة ليموت بعيدا عن الحلم  الإسرائيلي  باغتياله بالرصاص.

لكن من لم يمت بالرصاص مات بغيره. بالسم القاتل الذي حير الأطباء من كل شكل ولون، وكأنما أراد أن يكرر جملته الشهيرة، الفلسطيني مثل طائر "الفينيق" يخرج محلقا في كل مرة من وسط النار والدمار، صاعدا إلى ذرى الآفاق. لكن ما كل مرة تسلم الجرة!!

 أيديولوجيته، يمكن تلخيصها في المبادئ الرئيسية لحركة التحرر الوطني في العالم، تحرير الأرض من المستعمر وتخليص الوطن من الاستغلال، وفي سبيل ذلك فإن السلاح في يد وغصن الزيتون في اليد الأخرى، هكذا فعلها عرفات حين وقف على منصة الأمم المتحدة شارحا للعالم آنذاك حقيقة قضيته الوطنية.

 سياسته، يمكن تلخيصها في الكلمة المركبة "لعم" وأظن أنها اشتقاق عرفاتي فلسطيني صرف، تجمع بين لا الرافضة ونعم الموافقة، وعلى أجنحة "لعم" هذه طار عرفات دائما فوق شباك الصيادين وكمائن الأصدقاء ومخابئ الأعداء، فمثلما عانى الحصار والمطاردة، قاسى أيضا الخلاف والانشقاق ليس فقط من أقرب زملائه، ولكن أيضا من العواصم العربية العديدة، ومن جانب زعماء كبار المكانة والمكان، اتفق أحيانا واختلف  في حماية >لعم< مع جمال عبد الناصر والسادات وحافظ الأسد وبومدين والقذافي وصدام والملك الحسن والملك فيصل ثم فهد، لكنه ظل يسافر من عاصمة عربية غاضبة، إلى أحضان عاصمة مرحبة، برشاقة برجماتية، كان يحسده عليها كثيرون، كانت برجماتيته جزءا من أسطورته!

  شرعيته، اكتسبها من شرعية الثورة التي أشعلها وقادها مع بعض زملائه، الذين سقط بعضهم في الطريق، إلا انه ظل صامدا غير آبه للمخاطر والتهديدات،  التي طالما أرقته حين كانت تهب عليه من داخل البيت، طالبة الانقلاب مرة، ومطالبة بالإصلاح مرات، بعد أن غرس فساد الحاشية جذوره من حوله.

وحين استمع لصوت الإصلاح فجرب الانتقال من الشرعية الثورية، إلى الشرعية الدستورية -عقب عودته إلى غزة- لم يستطع التأقلم مع هذه المتغيرات، التي كانت تعني ضمن ما تعني، تقليص بعض سلطات الزعيم، لصالح سلطات الدولة والمؤسسات!

 ومن الواضح أن هذه كانت أخطر نقطة ضعف في عرفات، وفي كل زعيم تغريه الكاريزما الشخصية بالتفرد والانفراد بالسلطة والقرار، وربما المال إلى جانب السلطة المطلقة، وقد فعل عرفات في حياته بعض هذا كله، اقتداء بزملائه العرب في الزعامة، وتقديرا لبيئته وثقافته العربية، التي تخصصت في عبادة الزعيم وطاعة الأب شيخ القبيلة كبير العائلة في السراء والضراء.

ولعلنا نذكر حدة الأزمات المتتالية التي نشبت داخل القيادة الفلسطينية، بسبب تكدس المسؤوليات وتراكم السلطة وتقييد السياسة في يد الزعيم عرفات، بينما معظم من حوله، وفي كل العالم، يطالبونه بتوزيع المسؤوليات والفصل بين السلطات، ليس فقط انتهاجا للإصلاح الديمقراطي، ولكن أيضا احتراما لسنة الحياة وتقدم السن، وإشراكا للشعب الذي صنع الثورة وقدس الزعيم.

وها هي دراما سيرة الزعيم عرفات الزاهية، رغم ما فيها من ثقوب، تقدم لنا مرة جديدة، الحقيقة المرة داخل الأسطورة الجاذبة البراقة، فحين تميل الأسطورة نحو الذبول، يكتشف الناس أن الزعيم الكاريزمي هو وحده الذي يستقطب كل الأقطاب ويرأس كل الرؤساء، ويحمي كل الأبناء، وبالتالي في يده الأمر والنهي، ينفرد وحده، دون معقب، بكل القرارات والسياسات والسلطات والتمويلات، ولا يقبل الخروج على طاعته أو عصيان أمره، رغم تواضعه بالتظاهر بقبول الرأي المخالف، سماحة وعفوا، وتعظم في نظرة حكمته المطلقة جنبا إلى جنب مع سلطته المطلقة، دون أن يفكر أنه مثل كل البشر من البداية إلى النهاية، ربما يستبعد حتى فكرة الموت، فيشك ساعة الوهن في أقرب من حوله، الذين يتأهبون لوراثته!

وبسبب أمراض الأسطورة الكاريزمية التي تملكت بعض زعمائنا، عانت شعوبنا طويلا وكثيرا من ملخص الحكاية، "السلطة المطلقة مفسدة مطلقة" ولا تزال تعاني أمراض الاستبداد والفساد، يموت الزعيم ويترك وراءه ميراثا معقدا بائسا، يتنازعه مسؤولون أشد بأسا وتعاسة، لأن الزعيم بنى مجده وقوته هو، وبالمقابل ضعفت المؤسسات وتراخت فكرة الدولة وشاخ مشروعها الوطني قبل أن يولد، نام الزعيم، وربما مات، فوق كومة من القش!!

والمؤكد أن هذا الكلام لا ينصب على حالة فلسطين وحدها، ولا نعني به الزعيم الكاريزمي عرفات بذاته، لكن هذه حالة مرضية نشخص أعراضها المنتشرة للأسف في الجسد العربي العليل، وعلته في الدولة  الزعيم، وهي نقيض للدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، التي يطالب المصلحون العرب بإقامتها على أسس دستورية واضحة، تجنبا لاضطراب الدولة حين يغفو الزعيم.

هكذا يقع الفراغ، وعلى وقع رجع الصدى، يبحث الباحثون عن بديل للزعيم!

 رغم كل ترتيبات جمع الشمل داخل البيت الفلسطيني المحزون على رب البيت ورمز القضية الفلسطينية، الذي أحبه واحترمه مخالفوه ومعارضوه، قبل مؤيديه ومناصريه، فإن الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية، تشغلان نفسيهما سرا وعلنا، بالبحث عن خليفة لعرفات، يكون محاورا ومفاوضا وشريكا مقبولا.

والمعنى الصريح أنهم يبحثون عن شريك مقبول من جانبهم، أي يقبل ما هو معروض إسرائيليا، مقبول أميركيا، مرحب به عربيا، بعد أن ظل الزعيم عرفات، من وجهة نظرهم، عقبة كؤوداً في طريق التسوية الشارونية، محافظا بعناد وصلابة على مبادئ الثورة وثوابت القضية الفلسطينية، خصوصا تحرير الأرض المحتلة، واستعادة القدس وإقامة الدولة المستقلة، وتنفيذ حق عودة اللاجئين.

وبقدر ما عاقبت أميركا وإسرائيل عرفات وحاصرتاه داخل مبنى صغير في رام الله لأكثر من ثلاث سنوات، وفرضتا عليه العزلة والجوع وتعمد الإهانة، ما انعكس بشكل مباشر على نفسيته وصحته، بقدر ما ازداد الشعب الفلسطيني المحبوس داخل معزله الأكبر تحت القتل والتدمير الإجرامي، إعجابا بصلابة زعيمه وعناد رئيسه دفاعا عن حلم الدولة، أو دولة الحلم.

هكذا غفر هذا الشعب الصابر المجاهد، لعرفات كل أخطائه، بما فيها انفراده بالقرار والسلطة وتوزيع الثروة، ورأى في مجرد عناد عرفات ورفضه التنازل عن جوهر قضيته الوطنية سببا لغفران الأخطاء مهما عظمت، لكن شارون وبوش لم ولن يغفرا أو يتسامحا معه، فقد كان وحده وهو المحاصر المعزول، رمزا لتحدي كل سياساتهما وإرادتهما. وكل رموز التحدي يجب أن تكسر!!

الآن، يبحثون بمساعدات عربية نشيطة عن خليفة يعيد ترتيب البيت الفلسطيني على ذوق ومقاس إسرائيل وبرضا أميركا ومباركة كل العرب.. وأظن أن كل الخلفاء المطروحين، لا يحملون كاريزما عرفات وأسطورته، دون انتقاص من الكفاءة الذاتية لأي منهم، لكني أظن أيضا، وليس كل الظن إثما، أن بعضهم على أتم استعداد للتجاوب مع المطالب  الإسرائيلية   الأميركية والضغوط العربية، والخوف كل الخوف، أن يبدأ التجاوب بالمرونة وينتهي بالتسليم.

والتسليم في جوهر القضية الفلسطينية، أقدم حركة تحرر وطني في عالم اليوم، هو كارثة بكل المعاني، كارثة إن غلفتها تسويات واتفاقات، فإنها تمهد لعاصفة لاهبة في المنطقة برمتها، تثير الفتنة الكبرى والفوضى الشاملة، وفي الحالتين، التسوية أو الفوضى، تظل  إسرائيل  هي الرابح الأكبر، بعدما سقط من أمامها رافض التسوية الشارونية، وكابح الفوضى والفتنة الفلسطينية، ومتحدي الإرادة الأميركية، ومقاوم الابتزازات العربية.

ويظل، قبل ذلك وبعده، رهاننا على الأسطورة، طائر الفينيق الفلسطيني، الخارج ملتهبا من وسط النيران، محلقا في الآفاق، حاملا الحلم الذي لا يقتله السم!!

  آخر الكلام: قال إبراهيم ناجي:

لا رعى الله مساءً قاسيا

قد أراني كل أحلامي سُدى


*("الخليج" الاماراتية 12/11/2004)