سمير عطا الله

2015-12-09

الـيــوم عــاش .. !

بقلم : *سمير عطا الله

موت التاريخيين يدوم، لكنه لا يطول. فما ان نودعهم ويُستودعون، حتى يبدأ التاريخ بإيقاظهم. كل مرة لسبب. كل فترة لشيء. في هذه الاسابيع الاخيرة، كل شيء قرأته في مجلة او كتاب فرنسي، كان عن نابوليون، ليس عن جاك شيراك. برغم قرنين لا يزال الفرنسيون يتساءلون، هل استحق كل ذلك المجد؟ ألم يرتكب الكثير من الفظاعات في غزة ويافا؟ ألم يرسل الجيوش الفرنسية بعشرات الآلاف الى الحتف؟ هل تستحق المسألة كل ذلك؟

 ياسر عرفات لم يترك القاعدة العسكرية الفرنسية الى القاهرة فالضريح. لقد خرج فوراً الى التاريخ. سلطته أشبه بسلطة رؤساء البلديات الصغيرة. وأرضه مقطعة ومحاصرة. لكن العالم كان يتحدث عن نعيه وكأنه يتحدث عن اهم رجالات القرن المنصرم. رؤساء الأمم أعربوا عن افتقاده كشخصية عالمية. ورئيس فرنسا جاء يقدم لجثمانه التحية الاخيرة، كأنه زعيم المانيا او اسبانيا. وجميع شبكات التلفزيون العالمية نقلت بالتفاصيل الحية رحلة النعش الملفوف بالعلم الفلسطيني. وشمعون بيريس قال انه >أب فلسطين<.

 قبله، قبل ياسر عرفات، لم يكن هناك علم. وكان اسم فلسطين يوحي بالشفقة، وكانت فلسطين رمز الخسائر والنكبات والهزائم. كل ذلك تغيَّر مع ياسر عرفات. سوف يبقى فوق غربال التاريخ مثل سنبلة تمردت على كل مواسم الحصاد وكل المناجل.

اهم ما في تاريخية ياسر عرفات، انه بدأ في عصر النكبة ولمع في عصر الهزيمة. وعندما كانت الدول العربية الكبرى تخضع للاحتلال العام 1967 والنفس ميتة واليأس غالباً كان هو يبدأ العمل لتحرير الارض الأم. وقبل ان ينتصر نلسون مانديللا بثلاثين عاماً طرح ياسر عرفات نموذج الدولة الديمقراطية التي صارت عليها جنوب افريقيا فيما بعد.

 مات في فرنسا وشيع في مصر ودفن في رام الله. رئيس بلا دولة. وزعيم بلا حرية. ومواطن ليس له سوى القليل من الارض، ومع ذلك مات وشيَّع ودفن مثل اي من الزعماء العالميين. ودَّعه الذين أحبوه والذين استنكروه والذين ابغضوه، لانهم جميعاً احترموا فيه الجزء التاريخي في شخصه. الرجل الذي وحَّد الفلسطينيين بينما كان العرب يقسمونهم. وجعلهم جيشاً بعدما كانوا نازحين ومشردين. ورفع ايديهم الفقيرة والجائعة والمشتتة في الارض، وعلمهم ان يرفعوا شارة النصر. ولا شيء سواها.

 من العبث ان نذكّر ياسر عرفات اليوم باخفاقاته، بمغامراته البائسة. بمناوراته المضحكة احياناً في دوائر وفراغات ودهاليز السياسة العربية. يبدو انه ضحك علينا جميعاً. وفي النهاية حقق الشيء الوحيد الذي عمل من اجله: ان تناديه النساء في غزة وان يناديه الشبان في رام الله ونابلس بأنه أب فلسطين. الباقي تفاصيل. من أجل هذا اللقب عاش ثلاثة اعوام في شقة من غرفتين. ومن اجلها عاش 70 عاماً لا عيش فيها. لقد بدأت حياته فعلاً مع قراءة البيان الطبي الأخير في مستشفى بيرسي. اليوم عاش.


*("الشرق الأوسط" اللندنية 10/11/2004)