زهير هواري

2015-12-09


أمسك التراب بكلتا يديه .. وأطلق ما في جعبته من حلم

بقلم: زهير هواري


على امتداد أربعة عقود ملأ أبو عمار الدنيا وشغل الناس في أربع جهات الأرض. كأن هذا الرجل الذي ظهر فجأة بين أزقة المخيمات ولد بالضبط كي يصرخ بأعلى البندقية والصوت ان هناك ظلماً تاريخياً يجب أن يتوقف. ملأ أبو عمار الدنيا في ذروة الصعود وفي مراحل التراجع. حتى مرضه في المقاطعة الرابعة لم يكن مجرد حدث مرض بشري اصابه كما اصاب كثيرا من الناس، كبارا وصغارا. كان مصرّا على البقاء في مساحة لا تتعدى الامتار القليلة، أشبه ما تكون بالسجن الانفرادي، مع ذلك الجهاز الذي ينفث الاوكسجين في الغرفة الضيقة، بعد ان ضاقت حلقات الاصدقاء فاقتصرت على رفاق الدرب ممن هدّهم التعب حاملين الوجع من هذا المكان الى ذاك حتى استقرّ بهم المقام في رام الله. 

ربما في تلك المسيرة الكبرى، التي هي بالتأكيد أطول مسافة من مسيرة ماو الكبرى، كان أبو عمار نسيج وحده في دنيا العرب والعالم. ان يكون الرجل بما هو الكوفية والمسدس وقلم الحبر هو المتراس الأول والأكبر في زمن الزحف الامبراطوري الكاسح ليس بالأمر العادي. لقد جعل الرجل من شخصه، بكل ما يحمله من رموز وما يعبر عنه من تقاطعات، من جسده الموقع الأمامي. ربما هذا يفسر بقاءه في مقر المقاطعة محاطاً بذلك الدمار العظيم والحصار وتلك الإقامة الجبرية المفروضة. كانت رام الله القريبة من القدس وبيت لحم وجنين، وغير البعيدة عن غزة ورفح هي التي تتلخص به، دون ان يتلخّص بها.. كانت هذه فلسطينه التي ذهب اليها، وقيل ما قيل عنه وعن سياسته، دون ان يتجرّأ أحد على رمي أولئك الذين حاصروه، حتى هذا القرار، بكلمة او نأمة اعتراض. وعندما استقر به المقام محاولا بناء ما يشبه الدولة، للفلسطيني التائه، تكسّرت سيوف ورماح العرب أنظمة وحكومات واحزابا حتى عن نجدته.. كثيرون هم الذين اطلقوا سهامهم عليه، دون ان يدركوا مدى تلك المراحل التي قطعها الرجل في مسعاه نحو إعادة الحياة الى طائر الفينيق الفلسطيني، بدءاً من الرصاصة الأولى وحتى النّفَس الأخير. 

منذ العام 1948، بل منذ ما قبل بعقود ارتهنت قضية فلسطين للمحيط العربي قراراً في السلم وقتالاً متقطعاً مستنزف الأنفاس، في حروب حملت أسماؤها عناوين الهزائم... ومنذ ان اطلق أبو عمار ورفاقه رصاصاتهم الأولى متخطّين نهر الأردن حتى بدأت عملية إعادة بناء الإنسان الفلسطيني الذي يتشبث بتراب أرضه بالأسنان والاظافر، مفضلا الحدث على تكرار حكايات اللجوء الى مخيمات اليأس والشطب والمصادرة و"ورقة المساومة". انتهت تلك المرحلة مع كل ما تخللها من مدّ وجزر. قال "العرب" منذ الخمسينيات إن الوحدة هي طريق فلسطين، فقال أبو عمار إن فلسطين هي طريق الوحدة العربية. قرأ المعادلة على قاعدتها، وبدأ يثير الفوضى في سكينة الحدود والجبهات، حيث المستوطنات وحرس الحدود ودوريات الجيوش العربية. قالت "العرب" أنظمة، إن تحرير فلسطين ليس سوى قرار عربي تتولى صياغته وصناعته جيوش محترفة مزودة بالعتاد المتطور، وقالت الثورة الفلسطينية منذ ان أشعلت النار في سكينة المراحل، إن الشعوب قادرة على دحر هذا الاحتلال الاستيطاني القادر على التمدد واكتساح هذه المنظومة من المؤسسات التي لا تستطيع الوقوف صامدة تدافع عن أرضها الوطنية فكيف بفلسطين. ملأت الحرائق التي أطلقها أبو عمار الأرض العربية، ودول الطوق تحديداً. لكن فلسطين تحدّدت على مساحة أكبر من الماء الذي يحدد أرض العرب بين الخليج والمحيط.. دخلت القضية الفلسطينية منذ أن ظهر بكوفيته على مسرح الأحداث العالم باتساعه، عواصم وهيئات دولية وشوارع وصخبا لا يهدأ، ناهيك بالدبلوماسية والمشاريع المستترة. 

من الصعب إن لم يكن من الاستحالة تلخيص هذه العقود الأربعة بأسطر، مع كل ما تخللها وما رافقها من مد وجزر... لكن المحصلة تحكم لهذا الرجل الذي لم يكن لديه أرض يقف عليها، او مؤسسات يستند اليها، او محيط يحتضن هذه الثورة التي نالت من طعنات دعاة العروبة والقومية أكبر مما أصيبت من الأعداء.. وعندما عادت من متاهة "الأوديسة" الفلسطينية الى الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين العام 1967، تآمر الكثيرون على هزيمته، بل على موت الرجل، لقد أتعب هذا الرجل كثيرين ممن يسقطون جاثين بمجرد رسالة شفهية او خطية من موظف في الخارجية الأميركية... كان دمه، شخصه، قلمه، يبعث بالرسائل أولاً الى شعبه، ثم الى الشعوب القريبة والبعيدة والى مراكز القرار في عواصم الدول الكبرى والصغرى. لم يعد لديه ما يقاوم به سوى دماء محمد الدرة وأحجار كنيسة القيامة وقباب المسجد الأقصى، وزيتون الخليل ونابلس ومعازل غزة.. لقد أمسك التراب الفلسطيني بكلتا يديه وقرر ان يستعمل آخر ما تبقى له، عندما عمّ طوفان السياسة الأميركية، ولم يكن لديه الكثير حتى يقاتل به.. دوماً كان هذا الرجل بين أنياب الخطر.. كم هي المرات التي لامسه فيها الموت، لكنه كان ينهض لينفض غبار التعب عن جسده المنهَك ويُكمل ثانية.. كانت ارادته، ارادة شعبه، قوة القضية التي يدافع عنها هي آخر ما تبقى له. وأطلق ما في جعبته من حلم راود طفلاً صغيراً في مخيمات شاتيلا، اليرموك، البقعة او في ديار الشتات.. عندما كانت حياته على المحك في سجن المقاطعة، تشبث بالبقاء في مكانه. قرر ان يقول بالفم الملآن، وبالوجع الذي لا ينضب.. إن قدر القائد الفلسطيني ان يسقط في موقعه، وليس على فراش في مستشفى، او حتى في غرفة العناية الفائقة. كان يطلق حكمته الأخيرة، او نبضه الأقوى من ان فلسطين باقية في مكانها، عصية على الاقتلاع والمنافي. لقد انتهى ذلك العصر الذي قيل فيه للفلسطيني "أن أخرج واحتفظ بمفتاح البيت وصكوك الملكية.. أسبوع أسبوعان وتعود بعد تطهير الأرض من رجس العصابات الصهيونية"... كان يدرك، كما شعبه، ان تحرير هذه الأرض عبارة عن مسار تاريخي معقّد تخلله الكثير من الانقطاعات، لا سيما في زمن التلاشي والانحلال، القريب منه والبعيد. لكن الرجل كان دوما قادرا على ان يجعل من كل محطة مشروع معركة، حتى صحته، ذهابه الى المستشفى، خروجه من مقر المقاطعة، العاصمة التي يقصد للعلاج، قرار العودة.. كان عبارة عن وضع حياته في كفة الصراع كما كانت دوماً. 

كثيرون قد يتعاملون مع غياب عرفات وكأنه حدث عادي يعني الفلسطينيين وحدهم.. لكن السد الذي مثله الفلسطيني بالكوفية، بالمرض، بدمه، بزيتوناته، بدفاتره وكتبه، بالورشة الصغيرة والبيت المنسوف، بالمعازل، بالجدار الفاصل، بالقدس وبيت لحم وجنين والخليل ورفح وغزة... الآن معرّض للاكتساح إذا لم يكن هناك احتضان حقيقي، يجعل من مرحلة الصمت والانتظار في حساب الماضي.. 

لم يكن أبو عمار رجلا عاديا في تاريخ قضية الشعب الفلسطيني، في تاريخ المنطقة.. يكاد يختصر قصة الفلسطيني، التائه، المقاتل، المتشبث بموقعه العصي على الاقتلاع.. كان "الختيار" يقدّم لنا رسائله مرمّزة يومياً من مخابئه ومعاقله ومتاريسه.. وكان الأبهى، مثله مثل فلسطين التي تتوضأ بالدم يومياً، تستشهد ولا تموت، حتى ولو في مستشفى عسكري فرنسي.