حافظ البرغوثي

2015-12-09

لك القدس
بقلم:حافظ البرغوثي

يكفيه أنه عاش عصر بيروت.. وعصر الكرامة.. وعصر الانتفاضة.. وعصر صد العدوان الثلاثي.. وعصر الجهاد المقدس عام 1948.. ما من عصر ملحمي إلا وشارك فيه.. فهو مجبول بالصبر والجهاد.. هو ياسر مهندس المشروع الوطني الفلسطيني وأبوه.. لم يتخل عنه لحظة.. ولم ينفك يناضل من أجله.. وعاند المرض من أجله.. وعاند طبيعة الأشياء من أجله.. واحتمل ما تنوء الجبال عن حمله.. حمل الأمانة كلها وظل سادنها الأمين وحارسها اليقظ حتى فارقته الحياة بعيداً بعيداً بعيداً عن عرينه.. كانوا يظنونه حالماً وهو يرى القدس ومآذنها في نهاية النفق المظلم.. لكنه كان يرى ما لا نرى.. وحط رحاله على أكناف بيت المقدس.. كان قاب قوسين أو أدنى منها.. وكان يمني النفس أن يكون قاب قبرين منها.. وسيكون له.. فالشعب باق وسيحقق أمنية زعيمه التاريخي وسيمنحه المكان المقدس الذي يليق به. هو ياسر ظل الواحد الأحد الذي يقول لا في وجه الغطرسة الاستعمارية.. سقط الكبار وتناوشت الغربان دول العربان.. لكنه ظل واثق الخطوة يمشي ملكاً.. كما كان يحب أن يقول.. ويقول لا تفريط.. لا تنازل.. فالقدس هي من تحتل مساحة عقله.. وشرايين قلبه.. فلم يساوم عليها ولن يساوم غيره عليها.. هو ياسر وراحل.. لكن إرثه السياسي باق ما بقي طفل فلسطيني وزهرة من زهرات فلسطين.

الأطفال أحباء الله كانوا أحبابه أيضاً، وعليهم كان يتكل دائماً لتجسيد الأمل.. ومن أجلهم كان يصل الليل بالنهار مناضلاً من أجل المشروع الوطني وإقامة الدولة الفلسطينية حتى يعيشوا كبقية أطفال العالم لهم حق البراءة والابتسام والحلم.

يا ياسر أحببناك دوماً وأكلنا من يديك.. وسمعتنا نقول الحقيقة أمامك ونتجاوزها للنقد فكان صدرك الواسع ملاذنا في أوقات الشدة.. وكان حلمك يتسع كلما زادت جرعة النقد.. وكنت تبدد التشاؤم وتزرع التفاؤل.. كنا نخجل ونحن نغادرك ليلاً وأنت تستعد للنوم وحيداً بين ركام المقر المدمر والعامر بك.. يا لهذا الطود الذي لا يستريح.. ويا لهذا الذي ينسحب وحيداً في حجرة نومه ويتفرق من حوله كل إلى دفء البيت والعائلة.. ورفاهية الحياة.. ويبقى وحيداً ينسج في الليل ما سيفعله غداً.. ويؤخر ما في النهار ليتأمله ليلاً. كنت مجبولاً بالقدس وبرمل غزة وثرى جنين ولهب جبل النار وصلابة الخليل.. كنت الفلسطيني الأول وما زلت.

كم اسهبت في الحديث عن القدس في آخر لقاء عشية رمضان.. لا أدري ما الذي جعلك تعود إلى الوراء على مقعدك وتحملق في عيني.. وتسرد على مسمعي بداياتك الثورية في القدس عام 1967 ونشاطاتك لتشكيل الخلايا الأولى.. وكأنك كنت تسند رأسك إلى جدار الأقصى الذي صليت فيه آنذاك.. وكأن الأوان قد آن لكي تستريح وفي قلبك شيء من القدس.. أو كل القدس.. فنم قرير العين أيها المقدسي الطفولة والثورة. وستكون اللحد إن شاء الله.
 

لك القدس..

وكل المدائن التي قد تحب..

فأنت المؤهل للطيبات..

لك المجد..

لأنك ما انحنيت..

ولا خفت يوماً شر القتال..

فأنت المسور بالمعوذات..

لكل الطيب وكل الذي لا يجيء..

وكل الأماني الحالمات..

فأنت المبشر بعد الممات.


"الحياة الجديدة" الفلسطينية 12/11/2004