جوزف سماحة

2015-12-09

قل لي مَن دُفِن في  المقاطعة  أقل لكَ مَن أنت !

بقلم : *جوزف سماحة


قل لي مَن الذي دفنّاه في رام الله أقل لك مَن أنت.

لقد دفن الفلسطينيون بلوعة وحرارة زعيمهم "الإرهابي"، قاتل الأبرياء، سارق الأموال، الرافض أي تسوية، المصرّ على تدمير إسرائيل لكرهه الشديد لليهود.. هذا رأي، وهو يمثل غلاة الصهاينة ومؤيديهم في العالم ممّن يجدون في التشييع الشعبي سبباً للتبرؤ من المطالب الفلسطينية، وفي التشييع الرسمي البارد في القاهرة دليلاً على كراهية العرب لسواهم، وفي التشييع المهيب في فرنسا برهاناً على لاسامية متأصلة لدى الفرنسيين.

لقد دفن الفلسطينيون قائدهم، ورمزهم، ورئيسهم، وزعيم حركتهم الوطنية. إنه الرجل الذي أمضى عقوداً في صراع لا يكل مع إسرائيل وأمضى السنوات الثلاث الماضية من حياته محاصراً في غرفتين. وليس هناك ما يمنع أن يكون مات مسموماً. لقد قُتل، والإسرائيليون قتلوه. هذا رأي يمثل غلاة الوطنيين والقوميين والإسلاميين الذين يريدون الاستئثار بالإرث العرفاتي لتوظيفه في مواجهات لاحقة.

قليلون قالوا إن الفلسطينيين دفنوا قائداً وطنياً واقعياً عرف كيف يساهم في إيجاد شعبه على الخريطة السياسية، وكيف يدافع عن هذا الوجود، وكيف يرفض أن يحصل على حقوق هي أقل من الحقوق التاريخية كثيراً، وأقل من التضحيات، وأقل مما اعتقد أن في الإمكان تحصيله. أي إن الفلسطينيين دفنوا زعيماً قد يكون أخطأ وأصاب ولكنه بقي خير ممثل لهم ولمزاجهم. وليس هذا بالأمر اليسير.

إلا أن كثيرين، في العالم والعالم العربي، قالوا إن الفلسطينيين دفنوا رجلاً حمّال أوجه. إن موته، بهذا المعنى، يرغم شعبه على ضرورة الاختبار. لقد فعل الكثير لهذا الشعب.

إن غيابه يفتح فرصة جديدة (برنت سكوكروفت) لأنه يمثل، في حياته، حالة نزاع بين   "نصف كاسترو ونصف مانديلا" (أوري سافير)، إنه، بالنسبة إلى إسرائيل، وتباعاً  "العدو، الشريك، والخصم" (هآرتس)، لذا فإن غيابه "ينهي الذرائع" (عوزي بنزيمان). باختصار إن موت عرفات  "أزاح أكبر عقبة منفردة من أمام تحقيق السيادة الفلسطينية" (واشنطن بوست).

كانت هذه النغمة سائدة، لا بل طاغية. حمل رايتها معلقون أوروبيون كثر، ومعلقون وسياسيون أميركيون من الديمقراطيين أو من معتدلي الحزب الجمهوري، وكتّاب إسرائيليون  "يساريون"، ويجب أن نضيف إلى هؤلاء عدداً من كتاب هذا الصنف العربي الهجين المسمي نفسه ليبرالياً.

نظرية  "العقبة التي أزيحت" هي، عملياً، نظرية "الموت الخصب". تزعم أن الوضع في الشرق الأوسط كان حاملاً بالتسوية إلا أن عرفات لم يكن جاهزاً لهذه الولادة فمنعها. منعها من غرفته في المقاطعة حيث يقبع منذ ثلاث سنوات، وبعد أن دمر الاحتلال الأجهزة والمؤسسات، واقتحم المدن واغتال من اغتال، ومضى في بناء الجدار، ورفض خارطة الطريق، وزاد الاستيطان. نعم إن عرفات هو المانع بعدما انحاز جورج بوش تماماً إلى سياسة أرئيل شارون، وأوجد قدراً عالياً من التماهي مع اليمين الإسرائيلي، واعتبر أن المقاومة هي المشكلة لا الاحتلال، ودخل بغداد، وأطلق وعوده الشهيرة المؤيدة لضم مستوطنات والرافضة لحق العودة. الليبراليون العرب، مثل أقرانهم في أمكنة أخرى، لا يرون سوى القشة في عين عرفات.

قد لا يكون الوقت وقت سجال. إلا أن الحقيقة أننا في لحظة تأسيسية بمعنى ما. فما يقال هذه الأيام يشير إلى الوجهة التي يُراد للأوضاع أن تسلكها. ثم إن من المستحيل غض النظر عمّن يتمنى السلام، ويبكي عرفات، ولا يتردد في اعتبار غيابه شرطاً ضرورياً وكافياً (؟) لهذا السلام المنشود!

هذه الطريقة في التفكير تؤدي إلى الترسيمة التبسيطية التالية: يختار الفلسطينيون قيادة معتدلة ترفض جانباً جوهرياً من إرث عرفات، ويتجاوب الأوروبيون والمسؤولون العرب مع ذلك فيضغطون على الولايات المتحدة، يستقبل بوش الثاني الضغط لحاجته إليه وفي إطار توجه سياسي شامل يطال العراق وإيران، ترمي الولايات المتحدة بثقلها على إسرائيل، يضطر شارون إلى التراجع، تتوافر شروط التسوية ثم تنعقد، وبعد ذلك "هات يا ديموقراطية"!

إن كل محطة من هذه المحطات ملغومة. أما أن نصل بعضها ببعض لتتناسل فهو دليل استعجال يكاد يصرخ: ضقنا ذرعاً، نريد حلاً!

ينهض هذا التخطيط الساذج على رفض رؤية الحقيقة كما هي. والرفض، بدوره، يستند إلى "رغبة في الخلاص بأي ثمن" تجعل النتائج تسبق المقدمات. نحن هنا أمام حالة نموذجية للتعامي خوفاً من أن يؤدي التبصّر إلى استنتاجات غير مرغوبة تقود، منطقياً، إلى الدفاع عن توجهات سياسية أو، حتى، ممارستها. إنه نموذج معروف تطبّقه أنظمتنا العربية منذ فترة بعيدة غير أن عدواه انتقلت إلى  "ليبراليين" يزعمون أن السبب الرئيسي لتوجههم هو ضرورة الإسراع في القطع مع هذه الأنظمة من أجل إصلاحها أو تغييرها بالاستفادة من الضغط الأميركي الممارس عليها الآن!

يمكن "فهم" الأنظمة التي تدافع عن مصالح عيانية. ولكن يصعب فهم الإيهام الذاتي الذي يمارسه بعض من لا شك في تمنّيه الخير للفلسطينيين والعرب.

يتصرف هذا البعض كمن يود إسقاط مرحلة تاريخية من حسابه. لنقل إنه يتصرف كمن يفترض أن هناك من سيقدم جواباً إيجابياً على أسئلة هذه المرحلة إذا أمكن إطلاق سلسلة التفاعلات. وهكذا بعد أن تنجز الولايات المتحدة، بعون أوروبي، مهمات المرحلة الوطنية تنفتح الآفاق أمام مرحلة ليبرالية يعيش أبطالها في حالة كمون حالياً بانتظار أن يطلق أحد ما صفارة الإصلاح.

حشد هائل من الأوهام.

لا أفق، في المدى المنظور، لحل أميركي  معقول  للأزمة الفلسطينية. إسرائيل ليست في هذا الوارد وواشنطن ليست في معرض الضغط عليها. إن غياب عرفات، إذا كان فرصة، فهو فرصة لتسليط الضغوط على الفلسطينيين.

هذا أولاً. ثانياً، الحقبة الليبرالية، متى جاءت، ستتولاها أتفه بورجوازيات العالم قاطبة. إن بورجوازيتنا العربية لا تريد سوى الحد الأقصى من   الانفتاح ، والحد الأدنى من الحريات، ولا تمانع في استخدام الإيديولوجيات المحافظة وسيلة للضبط الاجتماعي.

يبقى الأهم. هل يعقل أن يتجنب اليبراليون العرب تقديم تصور لكيفية حل المسألة الوطنية إذا رفض بوش وشارون التجاوب؟

 غياب عرفات لا يفتح فرصة أمام السلام لسبب بسيط، هو أن العقبة لم تكن، ولا مرة، فلسطينية. السقوط في هذا الخطأ يكاد يوازي تبني الرواية الإسرائيلية الأميركية للصراع في مرحلته الأخيرة. وهو، بالتأكيد، تعتيم على الشارونية وما تمثل وعلى سياسة الإدارة الأميركية وما تمثل. هنا المشكلة، فلنبحث في المشكلة. قد نكون أمام احتمال يقول إن في الإمكان اتباع سياسة فلسطينية أكثر عقلانية. إلا أن هذا شيء وممارسة  "الشيزوفرينيا" شيء آخر: لقد خسر الشعب الفلسطيني قائداً عظيماً كان هو، شخصياً، الحائل الأساسي دون تحقيق هذا الشعب مطالبه الوطنية!

 ثمة قراءات متعارضة لـ "عرفات اللبناني". لا يخلو بعضها من وقاحة. إنها، في جوانب عديدة منها، مرآة للأحوال اللبنانية الحالية. هناك من يعود إلى عرفات لتأصيل عدائه للعروبة. وهناك من يعود إليه شاتماً لتبرير خياره الإقليمي الحالي. وهناك من يصمت.

إلى متى؟ إلى متى التهرّب من تقديم قراءة لما عرفه لبنان في العقود الماضية تعيد تباينات راهنة إلى أصولها، وتكشف أن تغييراً جوهرياً لم يطرأ، وتدرس تحولات شهدت تيارات سياسية محددة؟


*("السفير" اللبنانية 12/11/2004)