عبد الاله بلقزيز

2015-12-09
 
 

ياسر عرفات: ابتسامة من تحت الأنقاض

بقلم: عبد الاله بلقزيز
 

"حين يبتسم المخيم،   تعبس المدن الكبيرة" - (محمود درويش)

قلّما بارحته ابتسامة، دوماً على صفحة وجهه ترتسم: عريضة، بهية، حارة، تخالها من قسمات وجهه وهيبها وهباً. وحين غيّر الزمن من الوجه، فزحف الشيب واطلت التجاعيد تخطّ اخاديدها على اديم المحيا، لم تأخذ احكام العمر من شباب الابتسامة وحيويتها شيّا. ظلت تدل عليه وتشهد. ان كانت تبترحه في لحظة غضب او كلما كان ساهماً يفكر، فلكي تعود ابهى لتنشر الدفء فيمن حوله فتظلل مجلس الجالسين وتطلق دبيب الحياة في احاديثهم.
 

حين تدلهِمّ، وتنسد الآفاق، ويدبّ اليأس والحبوط في النفوس، كانت ابتسامة ياسر عرفات في مقام حبل الانقاذ الممدود لكل أولئك الذين كلّت اذرعهم من التجذيف ضد التيار. هكذا كان في حصار بيروت: يفاجئ مقاتليه في الخنادق ضاحكاً كأنه آتٍ من نصرٍ مؤزّر، مداعباً هذا وذاك، مرتفعاً بمعنوياتهم الى معارج البطولة. كان يكفي ان يراه مقاتلوه بينهم مبتسماً، رافعاً شارة النصر، حتى يؤجلوا تعبهم، وتدب فيهم شهية الصمود. هكذا ايضا رآه الصحافيون الاجانب في الحصار يزور موقعاً قصف وتهدم. او يمشي مختالاً في شارع اقفر من البشر، موزعاً ابتسامته وشارة النصر على من اعتبروه صيداً ثميناً للصفحات الأولى من جرائدهم. يسأله متحذلق منهم: "لماذا برأيك لم يقتحم الاسرائيليون بيروت المحاصرة؟" منتظرا ان يسمع منه تحليلاً سياسياً عن "فيتو" سوفييتي او اميركي على دخول عاصمة عربية، فيجيبه ياسر عرفات ببساطة والابتسامة تملأ وجهه: "لأنهم جبناء". ربما تذكر الصحافي ـ في ما بعد ـ دقة هذا الجواب حين اقتحم الجيش الاسرائيلي بيروت بعد خروج المقاومة الفلسطينية منها.
 

بعد عشرين عاماً من حصار بيروت، سيحاصروه شارون في مقره في رام الله بعد اعادة اجتياح الجيش الاسرائيلي لمناطق الضفة الغربية. كان الخطب شديدا: دمار شامل لكل البنى التحتية، مئات الشهداء والجرحى، آلاف المعتقلين وعشرات الالاف من المشردين، واقفال كامل للمدن والقرى والمخيمات، وتقطيع لأوصال الجغرافيا الطبيعية والبشرية، وتحويل التجمعات السكانية الى معازل واقفاص. أما الرئيس، ففي اقامة جبرية بالغة الاذلال للنفس والبدن، رصاص يئز ليل نهار على بناية المقر، وتدمير لأطرافها لتقليص مساحة الاقامة الى ادنى حد ممكن (غرفتين)، ثم قطع للمياه وللتيار الكهربائي وخطوط الهاتف وسائر وسائل التواصل مع العالم الخارجي، ومنع لزيارت الوفود الأجنبية وأعضاء القيادة...الخ. والأنكى والأمرّ: مخاطبة الرجل بمكبرات الصوت ودعوته الى الاستسلام! فجأة، ومن تحت أنقاض ذلك الاذلال الاسرائيلي، يلعلع صوت "أبو عمار" ليكسر الصمت قائلاً في شموخ وإباء: "يريدونني قتيلاً أو أسيراً أو شريداً. أقول لهم: لا... "شهيداً، شهيداً، شهيداً...". وكأنه بهذه الكلمات أوقد النار في الهشيم: زحفت جموع المتظاهرين بالآلاف كاسرة قرار حظر التجول في رام الله لتندفع هادرة نحو "المقاطعة" لفك الحصار عن رمزها الوطني الكبير. في الأثناء، كانت عدسات الكاميرات تنقل على شاشات التلفاز في العالم صورة ياسر عرفات في ضوء الشموع ـ داخل المقر المعتم الا من ضوء صموده ـ وهو ينشر ابتسامته في الناس.
 

تلك ابتسامته. أما سيرتها، ففي تضاعيف سيرة كفاحه الوطني الفذّ تُقرأ. كانت عنواناً لقضية تقول ببلاغة نفسها. وببلاغة تقول انها إلى النصر ذاهبة وإن تعرّجت بها السبل وأبطأ ايقاع مسيرها خذلانُ من خذلوها من أهلها في الأمة والملّة. وما كان ياسر عرفات في حاجة الى اصطناع ملامح المتفائل، لأن الرجل تحلّى فعلاً بالتفاؤل الثوري: تفاؤل المؤمن وتفاؤل المناضل. مؤمناً بربّه كان، وبشعبه وأمته، وبعدالة قضيته. وقارئاً للتاريخ كان، مُتّعظاً بدروسه والعِبَر. تقول له ان فلسطين آلت الى غير أهلها، فيجيبك: ان وعد الله حق وان الفلسطينيين ـ والمسلمين ـ سيدخلون الى بيت المقدس "كما دخلوه أول مرة". وتقول له ان الاسرائيليين اختطفوا فلسطين منذ نصف قرن وبات سلطانهم عليها أمراً واقعاً، فيذكرك بأن الصليبيين قضوا فيها أضعاف أضعاف ذلك ثم غادروها. وتقول له ان الفلسطينيين تركوا وحدهم في المعركة وخذلهم العرب، فيُمطرك بالأمثلة الذاهبة الى تبرئة ارادة الشعوب من حسابات الدول. وتسأله: ماذا في يدك من ممكنات حتى تضع المشروع الوطني الفلسطيني على خط التحقّق التاريخي؟ فيجيبُك: لديّ شعب الجبارين.
 

هذا التفاؤل الثوري ـ والابتسامة الوضيئة منه ـ هو ما كان يدفع ياسر عرفات الى ارتجال عبارات أكبر كانت تتحمّله لحظات الكبوة والحبوط فيخال ذلك كثيرون كلاماً في باب المكابرة: يلقى لتعزية النفس أو لتخليق تعبئة من عدم. سأله صحافي في بيروت وهو يهمّ بمغادرتها مع آلاف المقاتلين الفلسطينيين في صيف لعام 1982: "الى أين بعد بيروت؟"، فأجابه: "الى فلسطين". سمعنا الجواب وبَكينا بحرقة هذا الحلم الذي تحطّم فأطلّ مكابرةً. لكن عرفات عاد بعد نيّف وعشر سنين الى فلسطين. كنا نريدها عودة أجمل وأعظم وبشروط أفضل من تلك التي رتّبتها "أوسلو" سيئة الذكر. لكنه عاد دون أن يعود عن ثوابته التي خلُنا ـ قبل مفاوضات كامب ديفيد الثانية (تموز 2000) ـ أنه تهاون فيها... خابَ ظنُّنا. ابتسامةُ ياسر عرفات أكثر من علامة صمود. انها عنوان تاريخي. عنوان مرحلة طافحة بالآمال العِراض. بالثقة اللامتناهية في النصر: الثقة التي لم تبارحه حتى في الظلمة الظلماء.
 

من سيبتسم بعدَك يا أبا عمّار؟

المستقبل اللبنانية: 23/11/2004