ممدوح نوفل

2015-12-09


تاريخ أُمـة في سيرة رجُـل : أبو عمّار الرمز وعرفات الإنسان

بقلـم : *ممدوح نوفل 
 

بعد أقل من شهرين في 1/1/2005، تكون أربعون سنة بالكمال والتمام قد مرّت على إعلان عرفات وإخوانه، مؤسسي حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"، حرب التحرير الشعبية طريقاً وحيدة لتحرير فلسطين، وإطلاقه رصاصة الكفاح الـمسلح الأولى مطلع العام 1965، وخلال هذا الـمشوار الطويل الشاق والـمُرهق، صنع ياسر عرفات (أبو عمار) الرمز بجانب عرفات الإنسان، وقاد حركة شعب وفي عهده انبعثت الوطنية الفلسطينية من جديد، وتحولت مخيمات اللاجئين الى مواقع نضال، وتحول سكانها الى مقاتلين من اجل العودة والحرية والاستقلال. رقد ياسر عرفات الانسان على سرير في الـمستشفى العسكري في باريس قاوم الـموت بقوة. وكان ابو عمار الرمز واجهه من قبل مرات وتغلب عليه وصار معروفا بين ناسه بأنه الشهيد الحيّ. ووقف القدر مرة بجانبه وأنقذه من موت محقق عندما سقطت وتحطمت طائرته في الصحراء الليبية في ربيع العام 1992، لكنه في هذه الـمرة استسلـم أمام القدر، وهو الذي لـم يستسلـم ولـم يخضع قط لبشر. 

وعرفات، كأي إنسان عادي، يمرض ويدخل الـمستشفيات للعلاج. صحيح انه كثيراً ما حاول التمرد على تعليمات طبيبه الخاص، لكنه كان في كل مرة يخضع لها وينفذها بحذافيرها، ويبدو أن مرضه هذه الـمرة ليس كالـمرات السابقة، فقد حيّر مرضه أمهر الأطباء الفلسطينيين والعرب والفرنسيين، مثلـما حيّرت مواقفه السياسية كثيرا من كبار قادة العالـم، ومن الـمحللين السياسيين والاجتماعيين والنفسيين. وأشغل مرضه دول العالـم، وأقلق الأوفياء والأنقياء من أبناء أمته، ووضع شعبه ورفاقه وجهاً لوجه أمام مسائل وطنية حساسة ظلوا سنوات طويلة يهربون من التفكير فيها.

إلى ذلك، بعث مرض عرفات نشوة عارمة في نفس شارون وفي صفوف أركانه الامنيين والسياسيين، وأبهج خصوم ابوعمار وجميع من عادوا الحقوق الوطنية الـمشروعة للشعب الفلسطيني. ولـم يستطع الرئيس الأميركي جورج بوش الابن إخفاء حقده على عرفات وأبّنه قبل وفاته. ولـم يستغرب الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع والـمهاجر موقف شارون بما في ذلك تمنيه الـموت لعرفات، حيث ظل سنين طويلة يتمنى ان يشهد نهايته قبل أن يرحل من رئاسة الوزراء، لكنهم استغربوا واستهجنوا موقف بوش رئيس اقوى دولة في العالـم، ويتساءلون عن اسباب كل هذا الحقد الدفين الذي يختزنه ضد عرفات.

وبصرف النظر عن الـمواقف الشخصية من عرفات فان شارون سوف يبقى متهما من قبل الفلسطينيين بدس السم لعرفات ريثما تثبت براءته، وهو في نظر الـمراقبين الـمحايدين يصفي حسابات سياسية وفكرية وشخصية قديمة جديدة مع عرفات. أما الرئيس بوش فإنه مُدان في نظر الجميع بتشجيع شارون على ارتكاب جرائم كبيرة كثيرة في فترة حكمه الأولى، ومتهم بأنه افتتح عهده الجديد بتسهيل جريمة شارون الكبرى الجديدة.

قد يبدو عرفات، لـمن لا يعرفه عن قرب، انسانا محيرا ولغزا معقدا يصعب فهمه؛ لكنه في الواقع كان انساناً خجولاً أحبّ الحياة رغم انه لـم يستمتع بمعظم ملذاتها التي يستمتع بها الناس العاديون. ومن أجل فلسطين زاد حبه لها وتعلق بها واستمتع فيها على طريقته الخاصة؛ استمتع بالسلطة وتوابعها بدءا من سهر الليالي وعقد الاجتماعات الفلسطينية الـماراثونية، والـمشي فوق البساط الاحمر واستعراض حرس الشرف وأداء التحية عندما تعزف الفرق الـموسيقية النشيد الوطني، مرورا بمخاطبة زعماء العالـم وتمثيل فلسطين في الـمحافل الدولية، وانتهاءً باصدار الاوامر الخطية الادارية والعسكرية. وصرف الـمساعدات الـمالية لدعم الـمحتاجين فعلا ولتحقيق اهداف اخرى تتعلق بتعزيز سلطته. ولـم يرد أبوعمار طلب مساعدة وصل يديه، وكثيرا ما خرقت أوامر الصرف وقراراته الادارية والـمالية النظم والقوانين الرسمية.

وكل من يراجع تاريخ أبوعمار السياسي يجد حياته حافلة بالأحداث وظلت دوما صاخبة مليئة بالحركة والـمفاجآت. عاش أكثر من نصف قرن في ميدان العمل السياسي والحزبي وسط حقول من الألغام والـمتفجرات، كانت دائما قابلة للاشتعال السريع والانفجار في كل لحظة. وأدرك من البداية أن الـمال والاعلام ركنان اساسيان من اركان القيادة وأحكم سيطرته على الحقلين في "فتح" ومنظمة التحرير.

كان ابو عمار عنيدا في الدفاع عن القضايا الوطنية، وظلت مناكفة الـملوك والرؤساء العرب وغير العرب حول الـمسائل الفلسطينية الجوهرية والشكلية تبعث في نفسه نشوة استثنائية، وكان دائما يتباهى بجرأته في التصدي لكل مَن حاول التطاول على حقوق الفلسطينيين، وآخرها، انه الوحيد بين الزعماء العرب الذي قال (لا) كبيرة للرئيس الاميركي "بيل كلينتون" في عقر داره في البيت الابيض عندما طالبه بتقديم تنازلات تمس الثوابت الوطنية الـمتعلقة بالقدس ومقدساته وبالارض وحقوق اللاجئين. ويومها رفض أبو عمار الخضوع والاستسلام لكلينتون ومساعديه ودعاهم للسير في جنازته.

وُلد ياسر عرفات "محمد عبد الرؤوف القدوة" في الرابع   من آب 1929، وظل لا يعير اهتماماً يذكر للاحتفال بعيد ميلاده. ترعرع، كما قال، في كنف اخواله آل ابو سعود في بيت الـمقدس، وعشق في طفولته القدس وشوارعها الضيّقة والعتيقة وكل فلسطين. وبعد عملية السلام وتوقيع اتفاق اوسلو كثيرا ما أكد أبو عمار أمام الزوار الاجانب وبخاصة اليهود حملة الجنسيات الـمختلفة ايمانه بالتعايش بين اصحاب الديانات السماوية الثلاث. وكان يهوى الحديث بالتفصيل حول طفولته في القدس القديمة وكيف كان يلعب في حارة اليهود وظلال حائط الـمبكى مع ابناء جيله من اطفال يهود فلسطبن.

بدأ عرفات حياته متفانيا، وعاش فقيرا متقشفا، وتألـم لـمصائب شعبه، وحمل هموم أهله، وثار في شبابه ضد ظلـمهم وقهرهم، وتأبط البندقية دفاعا عن الكرامة الفلسطينية والعربية. درس في الجامعات الـمصرية وتخرج منها مهندساً مدنياً، وفي العام 1954 ساهم مع ابو اياد، صلاح خلف، وبشير البرغوثي وابراهيم غوشة وآخرين في تأسيس اتحاد طلاب فلسطين في القاهرة وترأسه عرفات. ومنذ ذلك الحين برز دور الطالب ياسر عرفات كناشط من اجل القضية يحب السلطة ويتقن أصولها. وفي ساعات الاسترخاء، في ليالي الثورة في الاردن ولبنان وتونس، كثيرا ما روى ابو اياد كيف كان عرفات يتصرف كرئيس اتحاد الطلاب، وكان يشبّه سلوك عرفات بسلوك الوزراء والرؤساء. وروى أمامه وخلفه مرات عدة أن عرفات استأجر حارس العمارة حيث مقر اتحاد الطلاب واستخدمه في تمثيل دور الزعيم، وأنه لـم يتورع عن فبركة أختام باسم اتحاد طلاب فلسطين ووقع اوراقا تؤكد وظيفته، وقدمها للسلطات الـمصرية طلب فيها منحه، بناءً على قرار قيادة الاتحاد، حق الـمشاركة في كل نشاط يمس القضية الفلسطينية.

بعد تخرج عرفات من الجامعة تحسنت اوضاعه الـمادية، خاصة بعد انتقاله اواسط خمسينيات القرن الـماضي للكويت، حيث عمل مهندسا مدنيا وأسس مكتبا خاصا للـمقاولات الهندسية، ولـم يتراجع حماسه للقضية. ولـم يلحظ رفاقه وأقرب الناس اليه اهتمامه في الكويت او زمن الثورة والدولة، بالأمور الشخصية. ورغم نجاحه في دفع قوى الثورة ومنظمة التحرير الى اعلان الدولة في العام 1988، وانتخابه رئيسا لدولة فلسطين في العـام 1989 لـم يغيّر عرفات موقفه بشأن عيد الـميلاد والامور الشخصية الأخرى، وحافظ على ذات السلوك الزاهد بعد قيام السلطة الوطنية وبعد عودته للوطن العام 1994.

ظل أبو عمار أعزب قرابة ستين عاماً وكان يفاخر بزواجه من القضية ومعها بندقية، وظل يستمتع بازعاج إخوانه الـمتزوجين باستدعائهم في أوقات متأخرة من الليل. وفي احدى السهرات بعد انتخابه رئيسا لدولة فلسطين في تونس مطلع آذار 1989، سأل ابو عمار؛ تخيل أننا نجحنا وطردنا الاحتلال بعد سنة او سنتين من فلسطين وأقمنا الدولة الـمستقلة فهل ستتزوج وتنهي غيرتك من الـمتزوجين وتتركنا ننام دون استدعاءاتك الـمعهودة بعد منتصف الليل؟ رد بسرعة وقال مازحاً لن أترككم تنعمون بما لا أنعم به.

وأضاف بجدية: "زواج ما رح أتزوج...انا راجل كبرت وصرت شبه عجوز ولن أجد من تقبل بي، ثم كيف أتزوج وهناك في العروبة والاسلام من يتآمر على القضية الفلسطينية. الزواج قد يلهيني بعض الوقت عنهم وهذا تقصير اعتبره خطيرا جدا ولن أتحمل مسؤوليته أمام الله والتاريخ.." وعندما قرر الزواج من قرينته سهى الطويل رفض اقامة الافراح، ولـم يحيِ الليالي الـملاح، وعقد قرانه وأكمل اجراءات الزواج بهدوء ودون ضجيج. ولاحقا صار حريصا على الاحتفال بعيد ميلاد طفلته الوحيدة زهوة، وخضع في السنوات الأخيرة لـمساعديه الذين اجبروه على الـمشاركة في احتفال سنوي متواضع بعيد ميلاده.    

تعرض أبو عمار منذ توليه زعامة حركة التحريرالوطني الفلسطيني "فتح" في العام 1965 لـمحاولات اغتيال كثيرة معظمها إسرائيلية، ونجـا من محاولات أخرى قام بها بعض الإخوة والاشقاء. وبفضل يقظته الأمنية العالية وإشرافه الـمباشر على ترتيبات أمنه الشخصي تمكن من البقاء على قيد الحياة سنوات طويلة، ولكن يبدو أن أعداءه نجحوا في استغلال احدى غفواته تحت الحصار، ودسوا له السم في الطعام، وقد نجحوا في حرمانه من الشهادة في ميادين القتال كما كان يتمنى. ورغم عداء بعض القوى الاقليمية والدولية له فان هذه القوى خاصة الولايات الـمتحدة الأميركية كثيرا ما تحركت لانقاذه من بطش شارون وأرغمته واركانه الامنيين على عدم التعرض لحياة عرفات. ولا نظلـم احدأ في القول إن حركتها لـم تكن بفعل مودة خاصة تكنها لشعب فلسطين ولشخص عرفات وأركانه في السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، بل نتيجة إدراك مبني على دراسات مدققة لـموقع عرفات الـمركزي والـمميز في صلب الوضعين الفلسطيني والإقليمي، ولدوره الـمؤثر في توجيه حركة الرياح فيهما .  

عرفات لـم يرث الزعامة وانتزع

شرعية القيادة بالانتخابات

 كان أبو عمار رجلاً صبوراً مؤمناً، آمن بالقضاء والقدر وبمقولة "لن يصيبكم الا ما كتبه الله لكم" وظل يتمنى الشهادة من اجل فلسطين، واقتنع بالحديث النبوي القائل "اعقل وتوكل" والتزم به في سلوكه اليومي. وبهذا الايمان وتلك القناعة تصدى ابوعمار للـموت بصلابه وتغلب عليه وطرده مرات عندما حام حوله في الضفة والقطاع والجولان وفي تونس وبيروت وجنوب لبنان وجبل الشيخ وطرابلس وأغوار نهر الاردن الشرقية والغربية .. الخ، وبالصبر والايمان قهر ابو عمار الجنرال شارون مرتين؛ الاولى عندما أحكم الجيش الاسرائيلي الطوق على مقرّه في رام الله، ورد عرفات على تشديد الحصار وقال لشعبه وللعرب والعالـم "يريدونني طريدا أو أسيرا ، وأريدها شهيدا شهيدا شهيدا" وكان يعني ما يقول. ومرة أخرى عندما حوصر في بيروت العام 1982، وأجبر شارون على فك الحصار وفتح الطريق وخرج عرفات سالـما حاملا بندقيته، ويومها رد ابو عمار على سؤال الصحافيين قبل ركوب البحر في 30 آب 1982 وقال: "انا ذاهب إلى بلدي فلسطين وعاصمتها القدس".

حينها سخر عدد من الـمقربين من عرفات من اعضاء الـمجلس العسكري الاعلى من هذا الحديث وقالوا إن أبو عمار يكابر كالعادة، ويواسي النفس ولا يريد أن يعترف بالهزيمة. ولاحقا وبعد العودة الى غزة العام 1994 ظل ابو عمار يشهّر بكل من لـم يصدقه ومن سخر من حلـمه ورؤيته. وهو الذي صنع أبو عمار رمز النضال الوطني الفلسطيني بجانب ياسر عرفات قائد "فتح" الانسان الذي يصيب ويخطئ في حياته اليومية.

وبصرف النظر عن رأي أعداء عرفات وخصومه في مواقفه وسلوكه، فان سيرته الشخصية والنضالية لا تخرج عن كونها قصة انسان كافح من اجل سعادة أُسرته وأهله، ورجل اجتهد في النضال من أجل حرّية شعبه وساهم بفعالية في بناء وتأسيس حركة وطنية فلسطينية مستقلة في اطار حركة التحرر العربية. وأسس اواخر خمسينيات القرن الـماضي مع إخوانه ابو جهاد وابو اياد وابو مازن والاديب وابو يوسف النجار وآخرين، حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" وصار لاحقاً ناطقاً باسمها.

في العام 1964، نجح الرئيس جمال عبد الناصر في دفع مؤتمر القمة العربية الى تبني فكرة تعزيز الدور الفلسطيني الـمباشر في الكفاح من اجل تحرير فلسطين، وتم الإعلان في تلك القمة عن تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، وسمى الزعماء العرب، بناءً على طلب عبد الناصر، السيد احمد الشقيري رئيسا لها. في حينه رفض عرفات الاعتراف بالـمنظمة وزعيمها الشقيري كقيادة لنضال الشعب الفلسطيني، ووصف الـمنظمة بأنها هيئة رسمية صنيعة الزعماء العرب مسلوبة الإرادة خاضعة لهم ولا تختلف عن انظمتهم. وضغط عرفات على إخوانه في قيادة "فتح" باتجاه التعجيل في بدء الكفاح الـمسلّح حتى قبل استكمال التحضيرات الـمتفق عليها. وتم الاعلان عن ميلاد الحركة الجديدة " فتح" في 1/1/1965، وقاد عرفات تنظيم فتح الـمدني والعسكري وأربعة أجيال متتالية من الشعب الفلسطيني على طريق الحرية والكرامة.

بعد هزيمة الجيوش العربية في حزيران 1967، التقى عرفات في دمشق إخواناً له وزعماء فلسطينيين في حركة القوميين العرب، وكانت معنويات مَن التقاهم في الحضيض، خاصة بعد انكسار عبد الناصر، وقال بعضهم لعرفات "كل شيء ضاع وانتهت القضية". وجاء رده سريعا: "انتم على خطأ هذه ليست النهاية هذه فقط البداية، وعلينا إعادة التفكير بالـمواقف والشعارات والتخلي عن الصيغ الجامدة في بناء الاحزاب". ورأى عرفات أن حرب حزيران، وهزيمة نظام عبد الناصر أثبتتا خطأ شعار"الوحدة العربية طريق تحرير فلسطين" ورفع شعار "الكفاح الفلسطيني الـمسلح طريق التحرير" و"تحرير فلسطين ممر رئيسي للوحدة العربية". وقوبلت أقواله بالشكوك، واعتبر حديثه عبثيا يستهدف مواساة الذات ومواساة من يستمع له. وكان الجميع متأثرا في اعماقه الفكرية والنفسية بالطريقة الـمؤلـمة التي تحطمت فيها الجيوش العربية وتحطمت معها آمال وتطلعات الرئيس جمال عبد الناصر القومية.

ونجح عرفات، في تلك الفترة، في دفع اللجنة الـمركزية لحركة فتح لتبني موقف يقوم على التحضير لانتفاضة شعبية مسلحة في الـمناطق الـمحتلة (الضفة الغربية وقطاع غزة)، وبادر مع رفاقه وجمعوا الاسلحة والذخائر من الجولان وأرسل دفعات منها الى الضفة الغربية. ولـم ينتظر عرفات تحرك الاخرين ولـم يتأخر وتسلل بعد الحرب مباشرة مع عدد من رفاقه الى الضفة الغربية، وبدأ بتأسيس قاعدة شعبية وخلايا سرية مسلحة لـمقاومة الاحتلال الاسرائيلي والتمرد على حكمه العسكري والـمدني، مستلهماً تجارب الشيخ عـز الدين القسام، وماوتسي تونغ وهوشي منه وجيفارا وفيدل كاسترو وقادة ثورة الجزائر. وظلت ثورة العام 1936 في فلسطين وثورات الصين الشعبية وفيتنام وكوبا والجزائر نماذج ماثلة أمامه فترة طويلة.

حينها اتخذ عرفات من مدينة نابلس وريفها مقراً لقيادته، وعرفه الفلاحون وأهل الـمدينة باسم الحاج ابو محمد، وبدت له نابلس قاعدة مثالية للعمل الفدائي بفضل ليس فقط أزقة البلدة القديمة (القصبة) الضيّقة والـمتعرجة والـمكتظة بالسكان، بل لأن تاريخها وتاريخ ريفها كان حافلا بالنضال ضد الاحتلال الانجليزي، وضد هجرة اليهود خاصة في انتفاضات سنوات 1922 و1929 و1936 و1939.

ومن نابلس راح"أبو محمد" يتنقل بين مناطق الضفة الغربية من جنين في اقصى الشمال مرورا برام الله والقدس في الوسط، وحتى الخليل في الجنوب، ومنها مد اتصالاته الى مدن ومخيمات قطاع غزة ومناطق النقب والـمثلث والجليل، وعمل على جمع ما امكن من الاسلحة والذخائر، وفتح معسكرات التدريب في الكهوف والاودية وكروم الزيتون، وارتدى لباس الفلاحين، وهناك اعتمد الحطة"الكوفية" غطاءً للرأس، ومنذ ذلك التاريخ لـم تغادر الحطة رأسه الا ما ندر، وفي الـمرحلة الاولى استحسن اللون الابيض اسوة بالوجهاء وكبار السن من الفلسطينيين. وبعد مغادرة الضفة اعتمر ابو عمار الحطة الـمرقطة بخطوط سوداء وقلده رَبعه من الفدائيين، وصارت لاحقا شعارا ورمزا للـمناضلين من اجل الحرية والداعمين لهم. ولـم يحاول أحد تقليده في لبسها.  

لـم يتمكن عرفات بعد العام 1967 من الـمكوث طويلا في الضفة الغربية وانكشف امره وتعرض للـملاحقة وطاردته قوات الاحتلال الاسرائيلي في الـمدن والريف وكادت تظفر به اكثر من مرة، وغادر الضفة الغربية الى الضفة الشرقية وأقام قواعد مقاتلة لحركة فتح على امتداد الحدود الاردنية ــ الاسرائيلية وفي منطقة وادي الرقاد ونهر اليرموك على الحدود السورية ــ الاردنية. وصارت منطقة الاغوار الاردنية ومرتفعات مدينة السلطة وأحياء مدينة عمان ومخيمات اللاجئين والنازحين الفلسطينيين في بقعة وصويلح والزرقاء واربد ميدانا لنشاطه السري الحزبي والعسكري.

صحيح أن عرفات وقادة حركة فتح رفعوا منذ البداية شعار استقلالية الحركة الفلسطينية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، لكن الصحيح ايضا أنه ورفاقه ابو صبري وابو جهاد وابو يوسف النجار اقاموا علاقات سرية حميمة مع عدد واسع من كبار الضباط في الجيش الاردني منهم العميد سعد صايل ومشهور حديثة وآخرون، واستفادوا منهم ومن مواقعهم في الـمعارك الـمؤسفة التي وقعت في ايلول 1970 بين الجيش الاردني والفدائيين، واستفادوا منهم قبلها في التسلل من الضفة الشرقية لنهر الاردن الى الضفة الغربية وتنفيذ عمليات عسكرية ضد قوات الاحتلال الاسرائيلي. واستفادوا منهم ايضا في معركة الكرامة العام 1968، حيث شاركت وحداتهم في التصدي للهجوم الذي قاده الجنرال ديان ضد الفدائيين.

حينها، رفعت معركة الكرامة شأن عرفات وحركة فتح، وتبنى عرفات تكتيك التصدي والـمواجهة الـمباشرة والقتال داخل البلدة ورفض موقف الاخرين الذين قالوا بالتراجع للخلف خطوة وتقليص الخسائر، ودعوا إلى الانسحاب من البلدة وضرب اجنابه ومؤخرته بعد دخولها، وظل أبو عمار يرى في الشهداء مصدر إلهام يقوي الثورة ويعمق جذورها في صفوف الشعب والارض.

وبعد معركة الكرامة رأى عرفات ان الوقت قد حان للسيطرة على منظمة التحرير بعدما كان يرفض الانخراط فيها باعتبارها صنيعة الانظمة العربية وأداة طيّعة بيد جمال عبد الناصر. ولاحقاً نجح عرفات وإخوانه في انتزاع زمام الـمبادرة، وتولت "فتح" قيادة الشعب الفلسطيني تحت لواء منظمة التحرير، وعملوا على تكريسها ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني.

وفي سياق الحديث عن عرفات القائد لا يستطيع أي باحث موضوعي تجاهل تاريخه وموقعه كرمز للنضال الوطني رفع شعار استقلالية الحركة الفلسطينية واستقلال قرار منظمة التحرير. وقاوم كل أشكال الوصاية والاحتواء. كما لا يمكن تجاهل دوره في قيادة مسيرة أربعين عاما من النضال من اجل الحرية والاستقلال وإقامة الدولة الـمستقلة. صحيح ان أبوعمار عرف في اوساط النظام الرسمي العربي، منذ بدأ الكفاح الـمسلح، بأنه مفتعل الازمات ومنبع الـمشاكل، واتهم مؤخرا في عهد بوش وشارون بأنه ارهابي يتزعم حركة ارهابية ويقود شعبه نحو الهلاك .. الخ؛ لكن وقائع الحياة تدحض ذلك، وسوف يسجل التاريخ العربي انه ساهم في ايقاظ أمة من سباتها العميق ونبهها إلى أخطار استراتيجية تحيق بها. ومن نال جائزة نوبل للسلام لجهوده في صناعة هذا الهدف السامي لا يمكن ان يكون ارهابيا يعشق القتل والدمار، ويسجل له انه لـم يرث الزعامة من احد وبلغ موقع رئاسة دولة فلسطين بجهده الشخصي، وكرّس شرعيته القيادية التاريخية عبر نضاله الطويل، وانتزع شرعيته القانونية والدستورية عبر الانتخابات.

وعندما اعترض أبو إياد وعدد واسع من اعضاء الـمجلس الـمركزي العام 1989 على الطريقة الـملتوية التي فرضها أبو عمار على الـمجلس لـمناقشة مسألة انتخاب رئيس الدولة، بكى أبو عمار وصاح في أعضاء الـمجلس: >أنا لـم أصل الى موقعي بالوراثة او بانقلاب عسكري بل بأعمالي التي قمت بها من اجل فلسطين<. ويومها قدم استقالته للـمجلس ولـم يعُـد عنها الا بعد مناشدة وتعهد بانتخابه رئيساً لفلسطين، وانتخب بالاجماع في تلك الدورة باستثناء ابو إياد، الذي رفض الـمشاركة في التصويت احتجاجاً على الأُسلوب.

 تفرّد في قيادة السفينة الفلسطينية وسط بحور هائجة

 واجَه عرفات منذ توليه زعامة منظمة التحرير في العام 1968 محاولات إسرائيلية ودولية وعربية وفلسطينية لزعزعة مكانته القيادية في الـمنظمة وفي حركة "فتح" التي ساهم في تأسيسها؛ لكن ميكافيلليته وبراغماتيته وقدرته العالية على قراءة حركة الزوابع السياسية والحزبية قبل وصولها، وإتقانه الـمناورة والتكتيك وبناء التحالفات وفكها بسرعة، مكنته من الخروج بسلام من الكمائن التي نصبت في طريقه، ونجح في مقاومة الـمحاولات الداخلية والخارجية لتقليص نفوذه وتحويله إلى شخصية رمزية مجرّدة من الصلاحيات، ونجح بجدارة في السيطرة على الوضع الداخلي الفتحاوي والفلسطيني العام ولـم يتورع عن استخدام كل الوسائل والحيل في فرض مواقفه وتوجهاته السياسية والتنظيمية على عموم الحركة الوطنية، وطبع مرحلة طويلة من حياة الشعب الفلسطيني بطابع عرفاتي مميز لا يمكن تكراره ويصعب تقليده.

كان عرفات مناوراً من الطراز الأول، وامتاز بقدرته على التعامل مع جميع صنوف البشر، ولـم ينسف جسراً بناه مع عدو أو صديق، وكان يحرص على بقاء شعرة معاوية حتى في علاقته مع الشيطان، ولـم يكن يغضب حين يسمع  طرفة عن  قصته مع ابليس يوم أدى مناسك الحج، والتي تقول >ذهب عرفات للحج وفي موقع رمي الجمرات رجم إبليس 6 رجمات فقط واحتفظ بالسابعة، وظن مرافقه في الحج أن الحاج أبو عمار أخطأ في العدّ وقال له :سيدي الرئيس رميت 6 رجمات فقط، أجابه بصوت منخفض لا ترفع صوتك حتى لا يسمعنا الله، من يدري ق نحتاجه يوما ما وعندها سأذكّره بأنني كنت أرحم به من الآخرين<. 

ظل أبو عمار وفياً لإخوانه ولكل من قاتل معه طالـما ظل قريبا منه ومواليا له، وكان الابتعاد عنه يعني دخول صاحبه عالـم النسيان، وكان التصادم الجدّي معه يعرّض صاحبه لأقسى العقوبات.

ورغم صلابته، بكى أبو عمار شهداء صبرا وشاتيلا، وقال >عارٌ علينا الصمت أمام استباحة الدم الفلسطيني، ويجب ألا نغفر او ننسى< وكان مقتنعا بأن الذاكرة الحية تصون الحقوق وتعبّئ الاجيال. والشيء ذاته حصل يوم فجيعة استشهاد أبو جهاد واستشهاد أبو اياد وأبو الهول وأبو محمد العمري في تونس.

كانت ثقته بشعبه عالية، واعتزازه بفلسطينيته مطلقة، لـم يعرف اليأس في حياته، ورأى في الانتفاضة الأولى هبة من الله، وفي الثانية إشراقة نور التحرير والعودة الاستقلال، وحاول عسكرة الأولى ولم يعترض عسكرة الثانية ورأى في العسكرة ورقة قوة بيد الفلسطينيين في مواجهة العنجهية الاسرائيلية والضغط على الإدارة الاميركية ودفعها لإرغام حكام اسرائيل على احترام مصالح الطرف الفلسطيني.

ظل يؤمن بأن الثورة سوف تنتصر وأن الدولة الفلسطينية سوف تقوم "شاء من شاء وأبى من أبى" .. وأن "طفلاً فلسطينياً سوف يرفع يوما ما علـم فلسطين فوق مآذن وكنائس القدس".. كان مقداماً في الـمواجهات الداخـلية كما الخارجية، وكان شجاعا وقت الشدائد والـمحن وظل شعاره "الأرض تفلحـها عجولها فقط" وكان قائدا ميدانيا يهتم بأوضاع الـمقاتلين، ويحفظ عن ظهر قلب أسماء الكوادر الصغيرة والكبيرة. والـموقع الذي لـم يستطع زيارته إبان الـمعارك في النهار زاره في الليل. وفي حصار بيروت رفض عرض الـمبعوث الاميركي، فيليب حبيب، بالخروج بلباس الصليب الاحمر الدولي، وأصر على الخروج الـمشرّف وبكامل السلاح. وفي سياق قطع الطريق أمام مَن قال من القيادة الفلسطينية دعونا نقبل العرض، وقف عرفات بعدما عمل استخارة وقال: "هبّت رياح الجنة، الله امرني ان استمر في الـمقاومة حتى الشهادة".

وعبر قيادته مسيرة النضال أكثر من 40 سنة، بنى عرفات الوضع الفلسطيني السياسي والتنظيمي والعسكري بصيغة يصعب على اي انسان بمفرده التحكم بها غيره، وامتاز بطاقة عالية وظل لسنوات يعمل اكثر من خمس عشرة ساعة في اليوم الواحد، وقمة العطاء وصفاء الذهن عنده تبدأ بعد منتصف الليل.

تحمّل قهر الحنين للوطن بصبر الواثق من العودة، وظل راسخ الايمان بأنه سوف يعود ويبني الدولة الـمستقلة، ونجح بتفوق في إعادة اسم فلسطين الى خريطة الـمنطقة الجيوسياسية، وساهم بفعالية في إقناع دول العالـم وزعمائها بعدالة قضية شعبه وبحق هذا الشعب في الحرية والاستقلال. وكان يولي العلاقات الشخصية الـمباشرة مع الزعماء أهمية كبيرة، واعتبرها ركناً مهماً من أركان العمل من اجل القضية وتوضيح حقيقة النزاع وكسب تضامنهم ضد الظلـم. 

وبصرف النظر عن رأي الآخرين فيه، فقد مثل عرفات تيار الاعتدال في الساحة الفلسطينية، ولـم يكن مغامرا ولا متطرفا، وحافظ بثقله الـمعنوي والروحي على جملة من التوازنات داخل الساحة الفلسطينية وداخل فتح ذاتها وفي العلاقات الفلسطينية العربية والدولية. ويسجل له انه نجح في طبع مرحلة كاملة من تاريخ الشعب الفلسطيني بختم عرفاتي يصعب محوه. وكرس نمطاً من العلاقات العربية الفلسطينية يصعب نسف أسسها وجذورها، وراكم خبرة قيادية سياسية وتنظيمية وإدارية غنية، وبنى رصيدا نضاليا لا يمكن لأي باحث موضوعي تجاوزه، ولا مصلحة للشعب الفلسطيني والشعوب العربية وكل الشعوب الـمكافحة من اجل الحرية طمس دروس التجربة العرفاتية، فهي تجربة غنية بشقيها الايجابي والسلبي.

وبهذا الرصيد وتلك الخبرة، عزز أبو عمار مكانته في صفوف الفلسطينيين، وتفرّد في قيادة السفينة الفلسطينية وسط البحور الهائجة التي عبرتها خلال اربعين عاماً، واحتفظ بشخصية مزدوجة، شخصية السياسي البراغماتي الواقعي الـمرن، وشخصية الثائر الـمبدئي الجامد، وكثيرا ما اصطدم عرفات بأبي عمار، خاصة لحظة اتخاذ القرار الوطني الصعب. 

كان رجل سلام حقيقياً، ونجح أبو عمار في دفع الحركة الوطنية، الـمجلس الوطني الفلسطيني، أعلى سلطة تشريعية فلسطينية، إلى تبني مبادرة سلام العام 1988 تتضمن بجانب قيام دولة فلسطين على اراضي الضفة الغربية وقطاع غزة فقط، الاعتراف بوجود اسرائيل على بقية ارض فلسطين التاريخية. وأظن انه الزعيم الفلسطيني الوحيد الذي كان بامكانه انتزاع قرار تاريخي كهذا، وأيضا توقيع اتفاق سلام فلسطيني ــ إسرائيلي من مستوى اتفاق اعلان الـمبادئ الذي تم التوصل إليه في اوسلو العام 1993.

ولا أحد غيره كان بإمكانه انتزاع قرار واضح من الـمجلس الوطني العام 1996 بإلغاء بنود ميثاق منظمة التحرير "الـميثاق الوطني" شبه الـمقدّس عند بعض الفلسطينيين، التي تتعارض مع اتفاق اوسلو وتدعو الى تدمير دولة اسرائيل. وأظن انه الوحيد الذي ظل قادرا على خرق الـمحرّمات الفلسطينية وتحمّل أعباء توقيع اتفاق حول قضايا الحل النهائي للنزاع يتضمن تنازلات تاريخية من مستوى التنازل عن قسم من حائط الـمسجد الاقصى، البراق، والـموافقة على بقاء مستوطنات في الضفة الغربية في اطار عملية تبادل في الاراضي. وأجزم أن القيادة الإسرائيلية ارتكبت خطأ استراتيجياً عندما لـم تستثمر مرحلة عرفات في الوصول إلى حل نهائي شامل ودائم للنزاع مع الفلسطينيين، وسوف يدفع الشعبان الفلسطيني والاسرائيلي وشعوب الـمنطقة ثمناً باهظاً لهذا الخطأ الجسيم.   

وفي سياق الحديث عن عرفات، تجدر الاشارة الى انه كان متهماً إسرائيلياً وأميركياً قبل عملية السلام وقبل التوصل إلى اتفاق اوسلو بتهم كثيرة: كان متهماً بأنه إرهابي يتزعم منظمة إرهابية ويحيط نفسه بمجموعة إرهابية .. الخ وبقدرة قادر تحول عرفات بين ليلة وضحاها، بعد الإعلان عن هذا الاتفاق إلى رجل سلام يؤمن بالتعايش بين الفلسطينيين والإسرائيليين أفنى حياته باحثاً عن السلام .. في حينه امتلأت فنادق العاصمة التونسية بالصحافيين ومراسلي وكالات الأنباء وشبكات التلفزة العالـمية، جاءوا لتغطية الحدث. ونقبوا في لقاءاتهم مع القيادة الفلسطينية في تاريخ عرفات الـمتعلق بصنع السلام، وتجنبوا البحث في تاريخه العسكري"الارهابي". وقال كثيرون منهم "أوامر رئيس التحرير تجميل صورة السيد عرفات وإظهاره رجل سلام".

وأبو عمار، الذي اتهم بالإرهاب، هو نفسه الحاصل على جائزة نوبل للسلام، ودخل البيت الأبيض أكثر من 25 مرة، وسجل رقما قياسيا في دخول زعماء العالـم هذا البيت وفي عدد اللقاءات التي عُـقدت مع رئيس أميركي. واعتبار شارون واليمين الإسرائيلي عرفات عقبة أمام صنع السلام في الـمنطقة لا يقف على أرض سياسية صلبة، وتفحص مواقف جميع الاطراف يبين أن لا خلاف في الجوهر بين الرؤية التي تبناها عرفات للحل النهائي القائمة على دولتين لشعبين، ورؤية هيئة الامم الـمتحدة ودول الاتحاد الأوروبي لهذا الحل. وأظن ان خلاف دول العالـم الـمعنية بتسوية النزاع العربي ــ الاسرائيلي مع شارون ونصيره الرئيس بوش ظل خلافا في الجوهر، أما خلافهم مع عرفات فقد تركز حول مسائل تكتيكية وليس أكثر.

في جميع الحالات اعتقد أنه من غير الـممكن عزل الحديث حول وضع القضية الفلسطينية في نصف القرن الـماضي عن سيرة عرفات الشخصية والسياسية والنضالية، خاصة مرحلة توليه زعامة منظمة التحرير. واذا كان الحديث اليوم حول مصيره يختلف عن الحديث الذي طرح بقوة إبان حصار القوات الإسرائيلية مدينة بيروت العام 1982، وحصارها الـمتواصل مدة ثلاث سنوات لـمقره في مدينة رام الله، فهذا الحديث وما رافقه من قلق وارتباك فلسطيني وإقليمي ودولي حول صياغة مستقبل الـمنطقة ومستقبل العلاقات الفلسطينية ــ الإسرائيلية يكشف حقيقة حال عملية السلام الـمزرية بعد ثلاثـة عشر عاما من انطلاقتها، ويؤكد فشل العالـم في إيجاد حل للنزاع الفلسطيني ــ الإسرائيلي رغم الـمرونة الفائقة التي أبداها عرفات.

وسوف يؤكد التاريخ صدق قول عرفات بعد اغتيال رابين وتولي حزب الليكود السلطة في اسرائيل: "عقدنا اتفاقاً وعدنا للوطن مقتنعين بصنع السلام الشامل معهم، لكنا وجدنا مجتمعاً إسرائيلياً غير ناضج لسلام عادل، وقيادة عنجهية لا ترى أبعد من أنفها تحاول شطب تاريخ الشهداء وتحويل السلام الى استسلام".

أجزم بأن التاريخ سوف يخلد ذكرى أبو عمار الرمز، ورغم الـملاحظات الكثيرة التي يمكن ان تسجل على اسلوبه في ادارة الحكم وموقفه من بناء الـمؤسسات، فإن ألد أعدائه لا يمكنهم إنكار أنه نجح في توحيد شعبه تحت رايات منظمة التحرير الفلسطينية، ونجح في قيادة أهله وربعه نحو الاعـتزاز بهويتهم الفلسطينية وإحياء قضيتهم الوطنية، ونقلها من غرف أرشيف الدول والحكومات، حيث كانت مهملة ووضعها على >الأجندة< الدولية، واحتلت قمة جدول أعمال هيئة الأمم الـمتحدة والـمؤسسات الدولية وجميع الدول الكبرى والصغرى الـمهتمة بالسلـم العالـمي وبشؤون منطقة الشرق الأوسط، ويمكن القول بثقة إنه بجهد الـمناضلين في زمن عرفات وتحت قيادة أبو عمار، لـم يعد بمقدور أحد كنس القضية الفلسطينية وإخفاء عناصرها تحت السجاد الأحمر أو الأسود، كما لـم يعد بمقدور أحد إنكار حق شعب فلسطين في دولة أسوة بشعوب الارض. وجميع  من فشلوا في تهميش عرفات في حياته يستحيل عليهم تجاهل تراثه بعد مماته، وأشهد أن سيرة عرفات لا يمكن تغطيتها ببضع مقالات، وقد تكتب يوماً في مجلدات.

*كاتب وقائد مناضل فلسطيني،مستشار للرئيس ياسرعرفات للشؤون الداخلية.

"الايام" الفلسطينية 16/11/2004