سليم الحص

2015-12-09


كـم قُــتــل أبـو عـمــار ولــم يـمــت .. !

بقلم : *سليم الحص

قُتل ولم يمت، تماماً كشعبه العظيم. لكَم قُتل هذا الشعب ولم يَمُت. قُتل أبو عمّار يوم تقسيم وطنه بقرار من الشرعية الدولية، ويوم أقتُلِع من بيته وشُرِّد في بلاد العرب، ويوم استحال لاجئاً يسعى مع مَن يسعى من أهله وراء مأوى وعَيشٍ آمِن، ويوم سقطت حيفا ويافا وعكّا. ثم ذُبِح وقُطِّعَت أوصاله يوم سقطت القدس في يَد الغُزاة. ولكنّه لم يَمُت.

قُتل، ومعه شعبه، في حرب السويس، العام 1956، ويوم هُزِمَت جُيوش العرب في حرب 1967.

قتل يوم اخرج من لبنان الذي استضافه في الأيام العصيبة والذي بذل من دماء أبنائه وهنائهم من أجل فلسطين بلا حساب  ، وقتل عندما طالت يد الغدر رفاق دربه الاشاوس  الميامين واحِداً واحِدا. أسماء كبيرة سطعت في سماء النضال الفلسطيني ثم انطفأت شعلتها، فبقِيت ذِكراهُم.

قهر الموت مرّات ومرّات إذ تعرّض للقنص والقصف والنسف، وإذ كان هدفاً لعمليّات تفجير ومحاولات الاغتيال .

حياة شعبه حافِلة بالأحداث الجِسام، بالصدمات المزلزلة، بالفواجِع والمآسي والكوارث الماحِقَة. سُلِبَت أرضه وشُرِّد من دياره وتُرِك في العراء نهباً للفقر والجُوع والضياع وشتى ألوان الشقاء والشِدّة والعذاب. ولكنه لم يَمُت إذ لم تَخبُ في وجدانه للحظةٍ واحدة جذوة الإيمان بحقِّه في الحياة والأمل في غَدٍ واعِد.

ستفيض روحه إلى باريها ولكن سيبقى ظله وارفا.

ما زال ماثلا امامنا بصورته ، بكوفيته ،بقامته،بصموده، بعزيمته، بتصميمه،بإيمانه بعناده.

 وسيبقى حاضرا معنا كيفما التفتنا :في صبرا وشاتيلا ،على حدودنا الجنوبية  على تخوم فلسطين ،في مصر والأردن والجولان، في قلب كل عاصمةٍ عربية، لا بل في آخر دَسكَرة من دساكِر الرِيف في الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه، رمزاً للصُمود والفِداء والنضال، عنواناً للثورة على القهر والظُلم والإستعباد، تَجسيداً لإرادة شعبٍ حُرّ في الحياة.

سيفارق الحياة الدنيا يوما دون ان يستسلِم. كان هذا أعظَم ما فيه. وسيبقى حجّةً دامِغَة أَبدَ الدهر في وجه دُعاة الاستسلام في كل مكانٍ من الوطن العربي.

وما أكثرهم هذه الأيام، ولا سيما بين الحُكّام كما بين ضِعاف النفوس في المجتمع العربي.

قلتُ في الماضي وأُردِّد اليوم: إنّ فلسطين  تكاد تكون البقعة المشرقة الوحيدة وسط الظلمة الدامسة التي تلف العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه.

شعب فلسطين يرزح تحت نير احتلال غاشم  منذ أكثر من نصف قرن،يتعرض للحصار والقتل والقصف والتشريد

والتنكيل كل يوم ،ومع ذلك فهو على العهد:    صامِد رافِض مُجاهِد، تُهدَم البيوت فَوق رؤوس أصحابها، فترى النِسوَة ينتحِبنَ فوق جثامين أطفالهن الشهداء الأبرار، ولكنك لا تَسمَع صوتاً واحداً يُنادي بالاستسلام.

أصوات البَرم والسَأم ونَفاد الصبر والانهِزامية وبالتالي الاستسلام قد تسمعها في أوساطٍ مُعيّنة في أرجاء الوطن العربي الأَرحَب، مَشرقه ومَغربه. ولكنك لا تَسمعها من صامِدٍ أو صامِدَة على أرض فلسطين.

ياسر عرفات سيمضي إلى جوار ربّه يوما من دون ان يستسلِم. كان طيلَة حياته ضمير شعبه الحَي وكلمته الحُرّة في تحَدّي الموت. كان مالئ الدُنيا، وشاغِل الناس والدول، فكان جزاؤه نبذا  من اميركا وإسرائيل ،ونعم الجزاء. 

أخذ على الرجل أنه لم يؤمن الخلف له ،ولا أمن اليةإنتاج الخلف.فبقي القائد الواحدالاوحد .وجعل من خلافته عقدة يستعصى حلها فغادر وقومه في معضلة.

قد يقال إن هذا شأن النظام العربي عموما، فإمّا الوَلَد خَلَفاً أو الطوفان، وانعِدام الديمقراطية آليّة حكم هو العِلَّة.

أمّا في حالَة عرفات، فما كانت له حتى نِعمَة النظام العربي العَقيم. فما كان له وَلَد. ثم إنّ حديث الديمقراطية يَبدو هَجيناً لا بل نشازاً في كنف ثورة مسلحة وحالَة اجتماعية إنسانية مُمِضّة. وسط هذه البيئة تَبدو الديمقراطية ترفاً لا يَرِد حتى في الأحلام. ثم لا ننسى أنّ عَدُو الأمّة مُجرِم سفّاح لَئيم، كان دوماً يَتخيَّر استهدافاته في عمليات الاغتيال والتصفيَة من بين الشباب الواعِد.

هكذا سطعَت في سماء فلسطين لفتراتٍ وَجيزَة عابِرة نجوم سرعان ما أفلت .

فالعدوان الذي استباح الابرياء لم يدع سبيل لاستيلاد الخلافة.فلا نجورن في الحكم على الرجل في هذا الصدد.

عايشت الرجل في أحلك ظروف لبنان وكنت في موقع المسؤول.حاورته وناقشته وصادمته،وكانت بيننا لحظات تأزم وتوتر شديدة، وخالط خطوط التواصل   بيننا أحياناً لحظات صَدّ وجفاء. ولكنني لم أَشعُر للحظةٍ واحدة أنّنا افترقنا في الموقِف القومي عند أيِّ مفصل. كان  يجمعنا دَوماً وَعي للمَصير القومي المُشترك، وللمصالح المُتشابِكة، ولأبعاد القضية القومية الواحدة، وكذلك تقدير عَميق لفداحة الأخطار والتحديات التي كانت تحيق بالمصير الوطني والقومي.

إن أَنسَ لا أَنسَ يوم كُنّا نُعد العِدّة للتوجُّه إلى القمّة العربية في تونس 1979، وكان علينا أن نَستدِرّ الدعم العربي على أوسع نِطاق في مواجهة التدهوُر الأمني الرَهيب داخل لبنان في كنف الاقتتال وما كان يخلله من مجازربشرية ودار رهيب وشدة متناهية في ظروف الحياة والمعيشة على كل صعيد.

وكنا ندرك أن الأجواء العربية لن تكون مؤاتيةلنا في المؤتمر فيما لوتةجهنا اليه في حال من التناقض والتنابذ مع الجانب الفلسطيني في لبنان ، وذلك نظراً لما كان الفلسطينيون يَستقطِبون من عطفٍ على المستوى العربي العام.

فعقدتُ العزم على التوصُّل إلى رُؤيَة مشتركة مع منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، نَتوَجّه بها بأقصى ما يمكن من التفاهُم أو أقل ما يمكن من التبايُن، عسى أن يكون ذلك سَبيلاً للحصول على ما كُنّا نَصبو إليه من دعمٍ عربي في مواجهة الأزمة العاصِفَة في لبنان.

هكذا عكفتُ على عقد لقاءات مسائيّة يومية مع وفد من منظمة التحرير في دارتي في الدوحة، إلى الجنوب من العاصمة بيروت، لمُناقشة شتى الأمور والقضايا العالِقَة،وماكان أكثرها، إلى أن جاء يوم توصلنا في ختامه إلى رؤية مشتركة نستطيع طرحها على القمة العربية.

وزارني أبو عمار مساءاليوم التالي تكريسا للتفاهم الذي تم.

بادرت جليسي بالقول:حرصا على إيجابية الاجواء التي نتوخاها في القمة لم يبق إلا خطوة واحدة  نَخطوها لترميم العلاقَة مع رئيس الجمهورية اللبنانيةالرئيس الياس سركيس.فأَهبتُ بأبي عمّار المُبادرة إلى طلب موعد مع الرئيس اللبناني لزِيارته.

أجاب أبو عمار:  وكيف لي أن أَصِل إلى المقرّ الرئاسي في بعبدا؟  فاقترحت أن يسلك طريق المتحف، على أن يُلاقيه عند نقطة العُبور فريق من الحرس الجمهوري لمواكبته وتأمين سلامته.

فكان جوابه :  اللَّه! وكيف لي أن أَجتاز خطّاً تَسيطِر عليه ميليشيات تُناصبني العداء وتتربّص بي شرّاً؟  فاستدركتُ بالقول:  إذن عليك بسلوك طريق الجبل بدءاً بعرمون مُروراً بسوق الغرب ونُزولاً إلى اليرزة فبعبدا.فرد متسائلا لتوه:ومن يسيطر على اليرزة؟وعندما قلت غنه الجيش اللبناني ،بادرني بالقول:كيف استطيع تعريض نفسي لجهاز الاستخبارات العسكرية؟

عندها عرضت عليه مرافقتي في في سيارتي الخاصة .فكان جوابه:الله... إذا كان عند الآخرين سبب لإطلاق النار على موكبنا، فقد أضحى لهُم سببان: أنت وأنا. هكذا أَفحَمني.

بعد يومين توجّهت إلى دمشق للقاء الرئيس حافظ الأسد. وفي طريق العودَة إلى بيروت صَعَقَني نبأ في نشرة أخبار الإذاعة اللبنانية يُفيد أنّ ياسر عرفات زار الرئيس الياس سركيس صَبيحَة ذلك اليوم. هذا هو أبو عمّار في أساليبه وذكائه وفرادته. وهو إلى ذلك إنسان طيِّب، إجتماعي، مُحِب.

بعد غِياب هذا الوَجه العربي المُتميّز، يَجِد الفلسطينيون أنفسهم أمام امتِحانٍ عَسير، وكذلك سائر العرب، محوره: كيف يكون الوَفاء لذلك الوَجه التاريخي الفذبغير مواصلة السير على طريق النضال وإن سلميا من أجل تحرير القدس وفلسطين ؟

وهل يكون ذلك إلا عبر إعادة الاعتبار للتضامن العربي على أوسع نطاق ، وعبر استيلاد قيادة جديدة موحدة في فلسطين تكون على مستوى التصدي لأعتى الاخطار والتحديات التي تواجه القضية العربي ، وعبر إبتِداع صِيَغ جديدة فعّالَة لدعم الشعب الفلسطيني في صموده ونضاله بكل الوسائل المادية والسياسية والإعلامية المتاحَة، وعبرَ تَلاقي العرب كافّةً على مشروعٍ واحِد مُشرِّف للحل المَنشود لقضيّة فلسطين، وأخيراً لا آخراً عبر لَمّ الشمل العربي وتَصليب الجبهة العربية دولياً في التصدّي لمشاريع تصفية قضيّة العرب المركزيّة التي قد تُبيّتها الدولة العظمى ومعها بعض القوى الدولية الأخرى.

العَدُو يُراهِن على تفتيت الساحة الفلسطينية بعد رَحيل القائد الفلسطيني الجامِع وعلى إشعال الفِتنَة بين الفصائل، فهل سنكون على مستولى التحدي ؟

آن الأوان أن ندرك ماهو من البديهيات :إن قوة العرب لا تكون إلا بوحدتهم .العرب أولى بالاتحاد من اوروبا .فما يجمع بين العرب أكثر كثيرا وأعمق جذورا مما يجمع بين الاوروبينن . بين العرب أواصر اللغة والثقافة والمصالح المتشابكة والتاريخ المشترك والمصير الواحد .  

فلماذا يكون لأوروبا اتّحاد ولا يكون مِثله للعرب؟

هكذا نَحفظ ياسر عرفات وأمثاله بيننا أحياء خالدين، ونحفظ لَهُم حَيِّزاً في سفر صُنّاع التاريخ.

ياسر عرفات لم يسقُط شهيدا، ولكنه كان الشهيد الحَي طِيلَة حياته. 
*رئيس وزراء لبنان (سابقا)

(السفير اللبنانية 10/11/2004)