أحمد قريع "أبو علاء"

2015-12-09


ياسر عرفات .. الاسطورة
بقلم: أحمد قريع "أبو علاء"*
أن نختزل ياسرعرفات ببضع كلمات أو سطور أو صفحات، فإن ذلك يبدو ضرباً من المجازفة التي لا تغوي النفس على اقتحامها، لأن الأمر يعني اختزال تاريخ طويل، وشخصيّة تجمع في جوانبها غنى وأحداث لا يمكن الإحاطة بها، وسيرورة نضال لم ينقطع ولم يتوقّف. . فظلّ في حركة دائمة لا تعرف التوقف والجمود.

ياسر عرفات رجل ككل الرجال من سلبيات وإيجابيات، فمسيرته وسيرته الملحمية، هي سيرة طائر الفينيق الفلسطيني، ينهض . . . يكبو . . . ثم ينهض مرة أخرى من الرماد . إنها مسيرة إنجازات عظيمة لا يستطيع حتّى أقسى الأعداء أن يشيحوا الوجه عنها . . 

إخفاقات لا يستطيع الصديق أن يغضّ الطرف عنها. إنه نسيج لا يشبهه أحد ولا يُشبه أحد، وتكثيف بالغ للمسيرة التراجيديّة التي يتماهى فيها الشعب والبطل ويتوحدان في كلّ واحد. 
 
هي المسيرة التي تواصلت منذ أن أطل ياسر عرفات على العالم في منتصف الستينيات، رمزاً للفدائي الذي انبثق من رماد الهزيمة، وحتّى لحظة أن شيّعته العواطف المتفجِّرة إلى مثواه في القلوب. . وإلى لحده ما قبل الأخير في رام الله، معانقاً حفنة من تراب القدس. 
 
كانت تعبيراً لعلاقة عز نظيرها بين الشعب والقائد والأرض. . ترتقي عالياً في دلالاتها لتلامس حدود الأسطورة.
 
غير أن الأساطير من الرجال، القادرين على صناعة التحوُّلات التاريخيّة العُظمى، لا يكونوا قادرين على صناعة أسطورتهم الذاتيّة بمعزل عن امتلاك مقدرة فذّة على زجّ شعوبهم ودفعها لأن تمتلك إمكانيّة الخروج كالعنقاء من مُدُن الرّماد وحطام اللحظة، وجعل أسطورة القائد جزءاً لا يتجزأ من أسطورة الشعب، وهو بالضبط ما فعله ياسر عرفات مع شعبه.
 
لقد كانت لحظة تاريخيّة مفصليّة، عندما أمسك ياسر عرفات وثلّة من رفاقه بالحلقة المركزيّة للنضال الوطني الفلسطيني، قبل أربعين عاماً، في الأول من كانون الثاني/ يناير 1965، فانبثق على أيديهم وهج الرصاصة الأولى لحركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"، وأشعلوا نيران الثورة الفلسطينية المعاصرة التي ما زالت تتقد إلى الآن، وستبقى تتوهج حتى ترتفع أعلام فلسطين على أسوار مدينة القدس، عاصمة دولتنا الفلسطينية المستقلة، وعودة أبناء شعبنا إلى وطنهم. . إن الرصاصة التي أطلقها الراحل الكبير ورفاقه كانت تعبيراً عن توق شعبي فلسطيني عارم إلى كسر جدار الخزّان في رحلة التيه الصحراويّة القاسية. فشكّلت انطلاقتهم تلك، انعطافة تاريخيّة حادة في مسيرة شعب ما انفك يبحث عن حريته واستقلاله.
 
وإذا كان "التاريخ عربة يجرها الأبطال"، كما عبر توماس كاليل في كتابه الشهير الذي درس فيه ظاهرة البطل في التاريخ، ودور العظماء في صياغة تحولاته الكبرى، فإن تاريخ فلسطين، وعلى امتداد العقود المتوالية منذ النكبة التي ألمت بالأرض والشعب الفلسطيني، كانت العربة التي جرها أبطال فلسطين وفي مقدمتهم ياسر عرفات قائداً لمسيرة النهوض العظيم الذي أحدثته رصاصة التحول الأولى في المسيرة نحو الوطن.
 
منذ ذلك اليوم، قبل أربعة عقود من الزمان وحتّى لحظة رحيله شهيداً شهيداً، ظلّ ياسر عرفات حادي القافلة وقائد المسيرة ورجل الإجماع الوطني بامتياز. ظلّ حارساً لشعلة النار المُقدّسة التي أشعلتها بندقيّة الثائر وحمت فيها أحلام شعب حاولت أطراف عديدة القذف به إلى قاع الجبّ وغياهب النسيان. غير أن الثائر ياسر عرفات استطاع وعلى امتداد مسيرته الطويلة، أن يؤاخي وبقدرة فذّة لا يمتلكها غيره، بين بندقيّة الثائر وغصن الزيتون، فلم يكفّ يوماً عن إطلاق رفوف الحمام في أفق مُلبّد بسحب الحرب السوداء، مُردداً أشواقه الدافقة بأن يعمّ السلام على أرض السلام، ومنادياً دون كلل وهو يطرق بقبضته جدران العالم: لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي. . لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي!

***

أن نختزل ياسر عرفات ببضع كلمات أو سطور أو صفحات، فإن ذلك يبدو ضرباً من المستحيل. فظلّه العالي كان يملأ المساحات ويفيض، ليظلل أبناء شعبه في الوطن والشتات، وبكل اتجاهاتهم وانتماءاتهم السياسيّة، فكان مدرسة في جمع الفسيفساء ورصّها وبناء الوحدة الوطنيّة في ساحة ملتهبة لم يكف الأخوة والأعداء يوماً عن العبث بها. ظلّ صمّام الأمان، الذي يُكنى بياسر عرفات، كفيل بحماية تماسكها وتلاحمها. وهو الدرس الأوّل الذي علينا أن نتعلّمه من قائدنا الراحل، والعهد الأوّل الذي نمنحه للرجل الذي منحنا الكثير: أن نصون وحدة شعبنا، ووحدة قواه، ونحافظ على طهارة السلاح الفلسطيني.
 
لقد اختلفنا واختلف رفاق الدرب كثيراً مع ياسر عرفات، لكن أكثرهم لم يقعوا يوماً في خطيئة الاختلاف عليه. ولا بدّ أن الندم ظلّ يساور رفاقاً وأخوة طريق ضللتهم أوهامهم فظنوا أنهم قادرون على تجاوز هذا الرقم الصعب، فتجاوزهم الزمن وعانوا طويلاً من عزلتهم عن الركب ومسيرة الشعب التي كان يقودها ياسر عرفات.
 
لقد كان ياسر عرفات، وعلى امتداد المسيرة الطويلة، رجل الإجماع الوطني بامتياز، وهي حالة لم يحظ بمثلها إلاّ قلّة من زعماء العالم وقادة التاريخ.
 
ولكل من سار مع القائد في تلك المسيرة، ورافقه في رحلة المنافي والثورة، مواقف خلاف مُعلن، وقصص انتصار وحصار، وتجربة انسحاب مشرِّفٍ ورحيل بحري . . وبهجة انتصار.
 
لكل منا معه قصصاً لا تتسع لها الصفحات، وتجربة لا تتسع لها مفردة التجربة.
 
*** 
 
لقد كان لي شرف أن أقدِّم، وفي وقت مبكِّر من عمر المسيرة، أوراق اعتمادي للفدائي الفلسطيني الأول ياسر عرفات، مناضلاً في صفوف "فتح" والثورة الفلسطينيّة، تاركاً خلفي صحارى التيه والغبار. وأن أترسّم على مدى العقود الأربعة الماضية خطى رجلٍ غير عادي، تترك قدماه آثارها محفورة على الأرض التي يمرّ فوق أديمها. . وبذلك، أتاحت لي الرحلة الطويلة معه معرفته عن كثب. عاينت همومه وأوجاعه، أحزانه ومسرّاته. رأيت الأحلام التي تطوف فوق عينيه وتُحلِّق بعيداً فوق الخرائط المؤدية إلى الوطن. وعانيت حصاراته الكثيرة الظالمة. . التي ظلّ فيها قادراً على أن يرفع إلى الفضاء الرّحب إصبعيه ليرسم، دون كلل، علامة النصر.

وإذا كنا قد عايشنا معاً أكثر من حصار، وأكثر من اقتراح موت مشترك، فإن أكثر الحصارات مرارة لم يكن حصار بيروت عام 1982 الذي تواصل لثلاثة شهور دون انقطاع، وطاف فيه الموت الأعمى ليتجوّل في الطرقات ويتربّص بنا في كلّ النقاط وزوايا البيوت، بل "حصار كامب ديفيد الثاني" عام 2000.

ففي ذلك الحصار القاسي الأشد مضاضة، كنّا مطالبين بالتنازل عن ثوابت قضيتنا، وعانينا الابتزاز والاتهام بأننا لسنا طلاّب سلام!

ولن أنسى ما حييت، تلك اللحظة التي واجهتُ فيها بتشدد طروحات الرئيس الأميركي بيل كلينتون والتي كان يستخدم معنا فيها آنذاك منطق العصا والجزرة، من أجل انتزاع التنازلات الكبرى التي لا يرضاها شعبنا ولم ترضها قيادته. ولم يكن أمام راعي المفاوضات إلا أن يستشيط غضباً واحتجاجاً. أمّا ياسر عرفات، الذي بلغته تفاصيل ذلك الموقف المتوتِّر، فقد وجدته مبتسماً وهو يستقبلني بأذرع مفتوحة على اتساعها.

إنها لحظة حفرت عميقاً في الذاكرة، وتنطوي على دلالات واقعية، يتكشّف من خلالها المعدن الصّلب الذي صاغ ياسر عرفات، فصاغ بدوره رفاق مسيرته بها، ليكونوا سنداً له في الملمات. . فلم يخذلوه حياً ولن يخذلوه وهو في العلى.

غير أن هذه الصلابة ظلّت تتضمّن نقيضها عند الضرورة. ونقيضها كان الإسفنجة التي يتحوّل إليها المعدن الصّلب، فتتلقى الصدمات القويّة. . دون أن تنكسر. . مؤمناً ـ بما قال الرسول الكريم ـ بأن ليس الشديد بالقوّة. . وإنما الشديد هو الذي يتمالك نفسه عند الغضب. ولتستوعب، في الوقت نفسه النقد، حتّى الجارح منه، والذي كان يوجّه إليه من خصومه ورفاق دربه، مؤمناً بأن الديمقراطيّة الفلسطينيّة التي وصفها بأنها "سُكّر زيادة" تتسع كثيراً، فلا تستثني نقد القائد.

كم اختلفنا معاً في قيادة الدفّة وأسلوب العمل والإدارة، لكننا حقيقة لم نكن نختلف عليه، حُرّاً طليقاً أو محاصراً في رطوبة جدران تبعث سمومها في الدّم والعظام، وربما تتسرّب إلى الدواء والطعام.
 
ولقد كان عليّ، من بين قلائل من أخوته ورفاق دربه، أن أكون شاهداً على لحظات لا تُنسى في حصاره الأخير . . حين حاصره الوهن والمرض وتداعي الجسد الذي أعيى الأطباء وما فتىء يطرح أسئلته، حينما دخلت عليه في لحظات ما قبل الرحيل وهو يخوض معركته الأخيرة مع الموت . . بعد أن صنع طويلاً أسطورة التحايل عليه والنجاة منه.
هل رأيتم جبلاً يتداعى وقمّة عالية تنهار؟
 
ذلك ما كان عليه القائد العظيم وهو على سرير الوداع الأخير في المستشفى الباريسي، سجين وهن الجسد، محاصراً بالمرض الذي يتسرّب بخبث عصيّ على الفهم ليسلب الروح من وعاء جسد لم يكن أمامه من خيار سوى أن يذوي ويذوب رويداً رويداً.
 
إنه مشهد عصي على الوصف، استدعى فيضاً من مشاعر الأسى والحزن التي هيمنت على القلب والعينين. . مشاعر يستعصي التعبير عنها ببلاغة التعبير.
 
في تلك اللحظة الصارخة في حقيقتها القاسية، أدركنا أن الرجل الذي كان قادراً على اجتراح معجزة الخروج من كلّ حصاراته دون خدوش والالتفاف على أعدائه ومحاصرتهم، لم يعد هذه المرّة قادراً على فكّ طوق الحصار الأخير الذي ضربه شبح الموت من حوله.

***
 
أن نختزل ياسر عرفات والتجربة الطويلة معه ببضع كلمات أو سطور أو صفحات، فإن ذلك يبدو ضرباً من التبسيط الذي يظلم الحقيقة والرمز معاً، فياسر عرفات، في حياته ونضاله وتجربته وشخصيته القياديّة الكاريزميّة، يشكِّل اقتراحاً لأكاديميّة تبحث فيه، رمزاً فذاً وقائداً استثنائياً. ولن يليق بمثل هذا الرجل، إلاّ مكتبة متكاملة تُكرَّس لتاريخه وفنّ قيادته لشعب حرّ من الداخل . . وعصيّ على الانقياد.

الآن، وقد بات علينا جميعاً أن نتقبّل، وبإيمان راسخ، المشهد السياسي الفلسطيني بعد رحيل رجل فلسطين الحاضر فينا بعد غيابه. فإن علينا أن نقبل التحدي الذي ظلّ مطروحاً من قبل أعدائه، والذي يروِّج بأن ياسر عرفات كان عقبة في طريق السلام. ولهؤلاء نقول: ليس عليكم سوى التقدُّم خطوة نحو السلام. . حتىّ تلمسوا وتروا أننا مستعدون لصنع السلام العادل والشامل، وكي توقنوا حقيقة أن ياسر عرفات كان عقبة كأداء، ولكن في طريق الاستسلام! .

لا وقت لحزن يقصينا إلى زوايا التأسي والنحيب. وعلينا، في هذه اللحظة المهيبة، أن نستعير من الشاعر الفلسطيني الراحل توفيق زيّاد، الذي فقدناه قبل عشر سنوات وهو على الطريق لملاقاة ياسر عرفات العائد إلى فلسطين، قولته الشهيرة: "إدفنوا أمواتكم وانهضوا".

فلندفن شهيدنا وننهض. لنرمم أحزاننا ونوقف نزيف الأسى ولوعة الغياب. نحفظ ذكراه في ضمائرنا ونمضي في الطريق الذي سلكناه معاً. فالتركة الكفاحيّة التي خلّفها ياسر عرفات لشعبه، ما زالت حملاً هائلاً وباهظاً من المسؤوليات والأعباء الجسام. وعلينا أن نثبت للقائد الشهيد في رقدته الأخيرة، أننا جميعاً في مستوى المسؤوليّة، وأنه لم يرحل إلاّ بعد أن حمّل الأمانة لشعب جدير بحملها، وأخوة ما خانوا الأمانة التي أوكلها لهم.

أمّا أسئلة الخلافة بعد ياسر عرفات، فإن المؤسسات الديمقراطيّة الفلسطينيّة تبقى كفيلة بالإجابة عليها وحلّها.

وشعبنا الفلسطيني، الذي أنضجته نيران التجارب، يبقى قادراً على أن يقول لواحدٍ من أخوة ياسر عرفات وأبناء شعبه، وبالاختيار الديمقراطي الحرّ: إنها لك. . ليس تشريفاً بقدر ما هي تكليف بحمل أكبر الأعباء التي طالما حملها القائد الراحل!. أمّا ياسر عرفات، فإنه باقٍ في قلوبنا وذاكرتنا، باقٍ في تراب وطنه ووجدان شعبه.

باقٍ ليواصل اجتراح الحقيقة من حلم لا ينام. . نحمله ونحلمه. . . حلم العودة والتحرر والاستقلال الوطني.

باقٍ ليرفع بيارق أملٍ ظلّ عصياً على الكسر. . وشعب انتصر على كلّ محاولات التغييب.
باقٍ ليحفظ ذاكرة فلسطينيّة. . لا تتقن النسيان.

*رئيس مجلس الوزراء الفلسطيني
"القدس "الفلسطينية12/11/2004