خطاب ياسر عرفات في الاجتماع الطارئ لوزراء خارجية دول عدم الانحياز في دوربان في جنوب أفريقيا

2016-01-14

معالي السيدة الدكتورة نكوسازانا زوما 

وزيرة خارجية جنوب إفريقيا 

أصحاب المعالي والسعادة وزراء خارجية دول عدم الانحياز 

 

تحية طيبة وبعد، 

 

نخاطبكم اليوم وأنتم تعقدون اجتماعكم الطارئ في مدينة ديربان في جمهورية جنوب إفريقيا، كأصدقاء وأشقاء أعزاء علينا وعلى شعبنا الفلسطيني، الذي يكن لكم كل المودة والاحترام والتقدير لوقوفكم إلى جانب قضايا الشعوب العادلة، قضايا الحق والعدالة والحرية والسلام، التي تجسدها قضية شعب فلسطين الذي يواصل نضاله العادل والمشروع بعزيمة قوية وإرادة لا تلين، وبدعم وتأييد من كل الأعضاء الموقرين في حركة عدم الانحياز، والأحرار والشرفاء في العالم، من أجل نيل وتجسيد حقه المقدس والمشروع في الحرية والاستقلال والسيادة، وحماية مقدساته الإسلامية والمسيحية وحتى اليهودية، إنه حق أقرته وكفلته له كافة الأعراف والمواثيق والقوانين، وقرارات الشرعية الدولية، فهذه الأرض هي أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين مسرى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومهد سيدنا المسيح عليه السلام. 

 

تعلمون، أصحاب المعالي والسعادة، أننا وشعبنا الفلسطيني نعيش ظروفاً بالغة الدقة والصعوبة، بل ومأساوية، ونواجه أمام أعين العالم ومنذ أكثر من تسعة عشر شهراً عدواناً غاشماً، تستخدم فيه إسرائيل أحدث أسلحة الفتك الأمريكية والتدمير والقتل والإرهاب والحصار لشعبنا الذي طال كل مناحي الحياة عنده، عدواناً همجياً دمر كل شيء في وجهه من حجر وشجر وبشر وبنى تحتية واقتصادية ومدارس وجامعات، ويستهدف هذا العدوان والإرهاب الإسرائيلي تدمير عملية السلام برمتها، وكل الفرص والمبادرات لإحيائها وإنجاحها، وكذلك تقويض سلطتنا الوطنية وقيادتها من خلال ضرب الشرعية الفلسطينية، وهيئاتها القيادية، وبنيتها التحتية الاقتصادية والمالية والأمنية ولإيجاد قيادات بديلة تقبل بالحل بالكانتونات الإسرائيلية، التي يسيطر عليها جيش الاحتلال والإرهاب الإسرائيلي، بعد هذا التدمير المنظم والمتعمد لكافة مرافقنا الحيوية، ومؤسساتنا المدنية والأمنية بعد سرقة كافة محتوياتها، وقتل واعتقال أفراد وموظفي السلطة الوطنية من مدنيين وعسكريين، وقيادات هامة من شعبنا بجانب الاعتقالات العشوائية لمواطنينا، هذا بالإضافة إلى الحصار الخانق الذي تفرضه إسرائيل على مدننا وقرانا ومخيماتنا ومقرنا، الذي حولته إلى مناطق معزولة ومعتقل فعلي محاصر بإحاطته بالأسلاك الشائكة وبالخنادق والحواجز العسكرية، بحيث لا يستطيع أحد دخوله أو الخروج منه، وحتى اقتحامه، بجانب قيام قواتها المحتلة بعمليات مداهمة لمنازل الموطنين وسرقتها واعتقال الآلاف منهم، ونسف وتجريف الكثير منها، ولعل ما حصل في مخيم جنين والبلدة القديمة في نابلس من تدمير همجي ووحشي ومجازر جماعية بحق أبناء شعبنا، دليل قاطع على استمرار الحكومة الإسرائيلية برئاسة شارون في جرائمها العنصرية ومجازرها المجنونة ولتدمير شعبنا وسلطته وبنيته، لتنفيذ خططها العسكرية الموضوعة سلفاً من خطة جهنم إلى الخطة المتدحرجة، وأخيراً الجدار الواقي، كما تواصل قوات الاحتلال الفاشي اعتداءاتها العنصرية البربرية على مقدساتنا المسيحية والإسلامية، بل وحتى تدميرها مثلما حصل في جامع عمر بن الخطاب قرب كنيسة المهد في بيت لحم، وخمسة جوامع وكنيسة أثرية في مدينة نابلس، ولا زالت هذه القوات تحاصر وتقصف أقدس وأقدم وأهم مكان ديني في العالم للمسيحيين والمسلمين وهو كنيسة المهد في بيت لحم، وتجويع من بداخلها من رهبان وراهبات ومواطنين، وتحاول بشتى الوسائل اقتحامها واعتقال أو قتل المتواجدين فيها، بجانب ما قامت وتقوم به من تدمير وجرائم داخل مدينة بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور الخضر ومخيمات العزة وعايدة والدهيشة حولها، وقد تم إحراق كنيسة مارجريس داخل كنيسة المهد وكنيسة تعميد الأطفال وأماكن إقامة الرهبان وغيرها من الاعتداءات الإجرامية. 

 

إن العدوان الإسرائيلي الفاشي المتواصل لغاية الآن على شعبنا وقيادته، وعلى مدننا وقرانا ومخيماتنا ومقدساتنا، قد طال أيضاً المستشفيات واعتقال الجرحى من داخلها، وقصف سيارات الإسعاف واعتقال طواقمها، ومنعها من القيام بواجباتها الأمر الذي أدى إلى وفاة المئات من أبناء شعبنا الجرحى، وتعفن وتحلّل جثث العشرات من الشهداء مثلما حصل في مخيم جنين والبلدة القديمة في نابلس التي تم تدميرها بطائرات F15 وf16، والأباتشي والصواريخ والدبابات والمجنزرات والبلدوزرات، وكذلك داخل كنيسة المهد في بيت لحم، وقد يسبب هذا انتشار الأوبئة والأمراض وهو ما حذرت منه الهيئات والمؤسسات الإنسانية والطبية والإغاثية، بسبب تدمير البيوت على ساكنيها، وكما أن قوات الاحتلال والإرهاب فرضت قيوداً شديدةً على تحركات الصحافة المحلية والعالمية، بل أطلقت النار على بعضهم وقتلت وجرحت العديد منهم بهدف إخافتهم ومنعهم من نقل وكشف حقيقة ما يجري من جرائم نازية عنصرية يقوم بها للعالم وللإنسانية جمعاء، وعن جرائمها ومجازرها العنصرية البشعة والوحشية التي ارتكبتها قوات الجيش الإسرائيلي، ولا زالت ترتكبها ضد شعبنا الفلسطيني؛ إن هذه الجرائم والمجازر هي من أبشع أشكال الجرائم ضد الإنسانية في العصر الحديث وفي هذا القرن، إنها وكما وصفتها مؤسسات دولية وإنسانية وطبية وحقوق إنسان، جرائم حرب يجب أن يحاكم مرتكبوها ومخططوها أمام محاكم خاصة لجرائم الحرب أسوة بما حصل في مناطق عديدة في العالم، ووصل الوضع إلى رفض قرار مجلس الأمن وقراره بإرسال الوفد الأخصائي وعدم السماح له بدخول إسرائيل، وهذا تثبيت للجرائم والمجازر التي قام بها الجيش الإسرائيلي ضد مدننا ومخيماتنا وقرانا وضد جماهير شعبنا القاطنين في هذه المناطق. 

 

إنها حرب وحشية وظالمة تشنها علينا إسرائيل بتواطؤ وصمت من بعض القوى الدولية برغم تجاوبنا وتعاملنا بمسؤولية ومرونة مع كافة الجهود والمبادرات الدولية والإقليمية لإحياء مسيرة السلام وحمايتها، ولوقف هذه الحرب البربرية ضد شعبنا، وقبلنا بكل التفاهمات والاتفاقات التي تمت من أجل وقف إطلاق النار وتثبيته، وخاصة تفاهمات تينت وتقرير لجنة ميتشيل، ودعمنا مبادرة السلام العربية التي قدمها سمو ولي العهد السعودي الأمير عبد الله، والتي تبنتها القمة العربية في بيروت / لبنان، والتي منعوني من الذهاب للاشتراك فيها، وأيدنا خطاب الرئيس بوش الذي ألقاه مؤخراً حول تفاقم الوضع في منطقتنا، وكذلك بيان اللجنة الرباعية من (أمريكا وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة) في مدريد الذي صدر في 10/4/2002، وقبله رحبنا بعودة الجنرال انتوني زيني لتنفيذ مهمته، وكذلك جهود السيد كولن باول الطيبة، وتعاملنا ولا زلنا مع جهودهم ووساطتهم باهتمام ومسؤولية ومرونة؛ لكن هذا الموقف الفلسطيني المسؤول والمرن والملتزم بالسلام لم يلقى من حكومة إسرائيل إلا الرفض المتواصل المقرون باستمرار غطرسة القوة والاملاءات وفرض الشروط علينا، إضافة إلى التصعيد في حربها التدميرية والإرهابية ضد شعبنا؛ فإسرائيل لا زالت ترفض كل الجهود والمبادرات الدولية والاتفاقات، وقرارات مجلس الأمن الدولي (1397)، و(1402)، و(1403)، وكلها تطالبها بسحب قواتها فوراً من الأراضي الفلسطينية المحتلة والمدن والقرى والمخيمات، ووقف عدوانها وحصارها المتواصل على شعبنا؛ وللأسف فإن ما يجري هو حرب عنصرية نازية على الإنسانية بكل ما فيها من مثل وقيم ومبادئ وتسامح ومحبة، إنه تدمير لكل شيء عند شعبنا، بل تدمير لتاريخ هذه الأرض المقدسة وللوعي وللذاكرة الفلسطينية كما صرح بذلك الجنرال موفاز رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، وأكدها رئيس الحكومة شارون، والمحصلة، أنه تدمير سافر وصارخ لكافة الجهود والمبادرات الدولية المبذولة لإقامة وتحقيق السلام العادل والشامل في المنطقة، سلام الشجعان، الذي وقعته مع شريكي الراحل رابين، والذي دفع حياته من هذه العناصر المتطرفة والتي تحكم الآن في إسرائيل، ولضرب الآمال التي بنيت عليها؛ إن استمرار هذه الحرب الوحشية والظالمة علينا يعني إعادة المنطقة في الشرق الأوسط كلها إلى دائرة الحروب والدمار التي عانت منها كثيراً في الماضي، وبالتالي نشر الفوضى واللااستقرار والعنف في المنطقة وفي العالم أجمع؛ وفي هذا السياق فإن إعلان حكومة شارون عن إنهاء المرحلة الأولى من عدوانها والإدعاء الكاذب بالانسحاب من المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية ليس سوى تضليل فعلي وذر للرماد في العيون، هدفه الالتفاف على تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي (1402)، و(1403)، وبيان مدريد الرباعي وإعلان الرئيس بوش، وقرارات القمم العربية، ومواقف القادة الدوليين والمؤسسات الدولية وفي مقدمتها حركتنا حركة عدم الانحياز ورئيسها السيد مبيكي الذي نشكره على الدعوة لهذا الاجتماع، إلا أن قوات الاحتلال لا زالت تحتل الأحياء الرئيسة في جميع المدن في انتهاك فاضح للاتفاقات الموقعة وقرارات الشرعية الدولية، وبهدف إلغاء المناطق الخاضعة للسيادة الفلسطينية الكاملة، وإقامة المناطق العازلة مثل الكانتونات التي شرعت فيها فعلاً، وتمزيق وحدة الأراضي الفلسطينية ضمن سياسة إقامة هذه الكانتونات، بما في ذلك حصار مقر الرئاسة الفلسطينية في رام الله وقطع الاتصالات معنا ومع شعبنا وقيادتنا وكوادرنا ووزرائنا، ومؤسساتنا الرسمية والشعبية والأمنية، بما في ذلك القصف والتدمير المستمر للمباني الملحقة والملتصقة بمقر الرئاسة وقطع التليفونات والكهرباء والمياه والمواد الطبية والتموينية بجانب استمرار تدمير البنية التحتية للشعب الفلسطيني وقيادته. 

 

لقد أصبح واضحاً للجميع أن إسرائيل تريد فرض الحل الذي يحقق لها مصالحها وأطماعها وأمنها على حساب حقوق شعبنا وأمنه وأرضه، وكذلك ضرب عملية السلام، إنها تريد بالفعل إخضاع شعبنا وجعله تابعاً لها يخدم أمنها ومطامعها وأجيراً عندها، وهذا ما لا يمكن لشعبنا الفلسطيني وقيادته أن يقبلوه مهما كانت التضحيات، ومهما بلغت التحدّيات، لقد أصبح الوضع عند شعبنا مسألة حياة شريفة وكرامة وحقوق مشروعة لا بد من استعادتها، خاصة وأننا الشعب الوحيد في العالم الذي لا زال تحت الاحتلال والمدافعين فوق الأرض المقدسة أرض السلام عن مقدساتنا المسيحية والإسلامية وحتى اليهودية. 

 

وفي ظل استمرار هذا العدوان والإرهاب، والحرب الضروس البربرية ضد شعبنا الفلسطيني، والذي يهدده في مصيره ومستقبله وحقوقه وأرضه ومقدساته، فإننا من موقع استمرار التزامنا الثابت بالسلام، سلام الشجعان، المستند إلى مبدأ الأرض مقابل السلام، وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، نناشدكم كأصدقاء وأشقاء لشعبنا، يدركون تماماً معنى الحرية والاستقلال والكرامة الوطنية، ونناشد أيضاً من خلالكم كل الأحرار والشرفاء ومحبي الحرية والسلام والعدالة في العالم، بضرورة التدخل العاجل والفاعل والتحرك على كافة المستويات الدولية وخاصة مجلس الأمن الدولي، واللجنة الرباعية (الأمريكية الروسية مع الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة)، من أجل توفير الحماية العاجلة لشعبنا من هذا الإرهاب والبطش والقمع للاحتلال الإسرائيلي، وهنا نرحب باقتراح معالي السيد كوفي عنان، الأمين العام للأمم المتحدة لإرسال قوة مسلحة متعددة الجنسيات، وقرار مجلس الأمن الأخير بإرسال لجنة التحقيق في الجرائم في مخيم جنين ونابلس، وغيرهما، ونرجو دعم هذا الاقتراح ودفعه إلى الأمام ليترجم عملياً لتحقيق هذه الحماية، وإيجاد آلية دولية ملزمة توقف هذا العدوان والحصار بكل أشكالهما على شعبنا، وتنفيذ المرجعية التي استندت إليها مسيرة السلام لوصولها إلى غاياتها المنشودة، لما فيه مصلحة وخير كافة شعوب ودول المنطقة بما فيهم إسرائيل؛ وفي هذا الإطار وللوصول إلى هذا الهدف فإن اتخاذ إجراءات دولية شاملة رسمية بما فيها إرسال قوات بيننا وبين إسرائيل، وفرض المقاطعة الدولية مثلما حصل في أماكن كثيرة في العالم، بما فيها ما حصل مع نظام الأبارتايد العنصري في جنوب إفريقيا سيحمل إسرائيل، قوة الاحتلال الغاشمة، على الإذعان لإرادة المجتمع الدولي، وتنفيذ قراراته التي تدعو إلى تحقيق وإقامة السلام العادل والشامل في المنطقة على أساس هذا السلام، سلام الشجعان، الذي وقعته مع شريكي الراحل رابين الذي دفع حياته ثمناً لهذا السلام القائم على الحق والتكافؤ، هذا السلام الذي يكفل وحده الأمن والاستقرار لشعوب ودول المنطقة، ولشعبنا الفلسطيني إنهاء الاحتلال بكل أشكاله وخاصة الاستيطان لأرضنا ومقدساتنا المسيحية والإسلامية، واستعادة وممارسة حقوقنا الوطنية الثابتة في العودة، وتقرير المصير، وإقامة دولتنا المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، باعتبارها الضمانة الأساسية واللازمة لنجاح وتوطيد السلام والاستقرار في المنطقة وفي العالم، وحتى لا يحطم هذا المخطط الإسرائيلي فرص السلام والأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط كلها وانعكاساتها الخطيرة والسيئة على السلام العالمي، فهذه الأرض هي الأرض المقدسة. 

 

إننا وشعبنا، أيها الأشقاء والأصدقاء، نعوّل كثيراً على تحرككم وجهودكم الأخوية الخيّرة والمخلصة من أجل إنهاء هذه المأساة الإنسانية التي يعيشها شعبنا بكل أشكالها، ولوضع حد لدوامة سفك الدماء والقتل الجارية في المنطقة، والتي سيكون لاستمرارها عواقب وخيمة وانعكاسات خطيرة على الأمن والسلام العالميين، ونأمل أن يخرج اجتماعكم الطارئ هذا بالقرارات الفاعلة التي تساهم في وقف هذه الحرب البربرية، والعدوان الإسرائيلي السافر على شعبنا وأمتنا العربية والمنطقة كلها.

 

والسلام عليكم