مقابلة صحافية لياسر عرفات [1969]

2015-12-07

أبو عمار : نحن أقوى من أية محاولة لتصفية قضيتنا

قيل لنا بعد هزيمة حزيران : إذا أطلقتم رصاصة واحدة اعتبرناكم خونة !

بعد التحرير يمكننا أن نختلف ما طاب لنا الاختلاف

أجرى المقابلة : طلال سلمان

امضيت في الاردن عشرة ايام طويلة وحافلة ومثيرة. كان قصدي من الرحلة، ان >اعيش الجو< المتميز والفريد السائد هناك، وأن احاول الدخول الى رؤوس المقاتلين بدلا من الاكتفاء بتصويرهم ورواية سير بطولاتهم الفردية. 

وبين عمان والزرقاء واربد والكريمة والشونة والكرامة والسلط والمفرق وجرش طفت على قواعد المقاتلين، والتقيت بقادة معظم التنظيمات، وبغض النظر عن رأيي المسبق في اشخاصهم واتجاهاتهم ومواقعهم الفكرية، ابتداءً بقياديي "فتح" وانتهاءً بجماعات "المنظمة الشعبية" و"جبهة النضال الشعبي"، مرورا "بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، و"طلائع حرب التحرير الشعبية"، وبالطبع: منظمة تحرير فلسطين بلجنتها التنفيذية وجيشها المتمرد وقوات التحرير الشعبية التابعة له.. (قبل قيام القيادة الجديدة). 

ولقد اجتهدت ان أرى الصورة من كافة جوانبها بغيرما تحيز او عاطفة تفرض عليّ سلفا موالاة هذا التنظيم او معارضة ذاك، وحرصت على مسلك الباحث المتجرد المهتم اولا واخيرا بالقضية ذاتها: قضية ثورة شعب فلسطين التي انظر اليها على انها المدخل الطبيعي الوحيد لثورة عربية شاملة تصفي آثار الوجود الاستعماري الامبريالي الصهيوني على ارض وطننا الكبير. 

وأزعم اني عدت وقد ازددت تجردا بالنسبة لسائر فصائل الكفاح المسلح، في حين تعاظم ولائي لقضية الثورة التي تعيش الآن بداياتها الصعبة والخطرة والحماسية ايضا. 

ولقد اخترت ان اعرض حصيلة رحلتي من خلال الحوار وليس من خلال الوصف، مفترضا ان كثرة من زملائي الصحافيين قد قاموا بمهمة الوصف خير قيام حتى ليتساءل من يأتي بعدهم، بلسان عنترة العبسي: >هل غادر الشعراء من متردّم ؟! 

ماذا يقول، اذاً، ابو عمار؟! في ما يلي حصيلة مناقشة مفتوحة معه امتدت نحوا من اربع ساعات، وأرجو ان تكون امينة في تقديم صورة متكاملة عنه وعن افكاره التي هي، بشكل عام، افكار "حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح". 

حين انتصبت واقفا، بعد تجاوزي باب الكهف الواطئ، جاءني صوته مرحبا ومعتذرا: 

اهلا. تعرف اننا في حالة استنفار، وهذا يضطرنا الى تعديل وإلغاء الكثير من تحركاتنا ولقاءاتنا. آسف، لقد جعلتك تنتظر في النهار بعض الوقت.. 

وبينما كنت اشد على يده الدقيقة الاصابع بشكل ملحوظ اضاف ضاحكا: 

ولكنك ثأرت لنفسك فورا، فجعلتني انتظرك مساءً دون ان تجيء... واحدة بواحدة. 

قلت نبدأ، اذاً، من جديد... 

سلمت على الرجال وجلست على الكرسي الابيض اليتيم في الجانب الآخر من الطاولة الصغيرة التي تتراكم فوقها وحولها الاشياء: الكلاشينكوف وجهاز الارسال وراديو ترانزيستور وبعض الاوراق والاكواب وعلبة سجاير "كمال" تناولها ابو عمار ليقدم لي واحدة منها: 

دخن...

ألا تدخن انت؟

يبتسم وهو يهز رأسه نفياً. وأتطلع مليا الى الوجه الصغير والمتناقض الى حد كبير مع الصورة الاولى التي نشرت له، ربما لأنه الآن بغير النظارتين السوداوين: العينان لامعتان متحركتان ابداً، الانف افطس، والشاربان على سجيتهما.. أما الملابس فعادية تماما، بمعنى انها كتلك التي يلبسها اي مقاتل آخر... 

بعد فترة التأمل تبدأ الاسئلة، وأقول ممهدا وموضحا طبيعة ما سأسأل عنه: 

في خاطري كما في خاطر كثير من المواطنين العرب تساؤلات كثيرة حول >فتح< فكرا وعملا، كذلك ثمة كثير يقال فيها وعنها، في الصحف والمجلات العالمية، مما يستحق الرد والتوضيح، ولسوف اطرح كل هذه التساؤلات امامك.. 

 قال بسرعة: لست افهم لماذا هذا التركيز على "فتح"؟ الكل يطالب "فتح"، والبعض يندفع الى حد الهجوم الصريح على "فتح". وفي كل مرة يكون الاتهام مختلفا : مرة نحن إخوان مسلمون، ومرة ثانية نحن شيوعيون صينيون، وثالثة نحن أتباع للبعثين، وبعد 5 حزيران قيل اننا ناصريون، بينما يصر البعض على اعتبارنا دائرين في فلك السعوديين.. لماذا؟! وكيف يمكن ان نكون كل هذا في آن معا. طبعا، نحن لا نجد ضرورة لدحض هذه التهم لأنها تحمل بذور كذبها في ذاتها، ويكفي تناقضها دليلاً وبينة. 

وقبل ان اطرح سؤالا جديدا تضيء ابتسامة عريضة وجه ابي عمار وهو يستطرد فيقول : الآن اختلفت الحال بالطبع وصارت تنظم فينا قصائد المديح والتمجيد، وصرنا في نظر المتهمين والمشككين أبطالا أعادوا الى هذه الامة ثقتها بنفسها وأملها بالنصر بينما هي غارقة في عار الهزيمة. 

 قلت: البعض يفسر الاتهامات الموجهة إليكم وتناقضها، بأنها نتيجة طبيعية لعدم تحديدكم لهويتكم فكريا. 

اعتدل ابو عمار في جلسته وعلق على الفور: دخلنا في لب الموضوع... لنتفق اولا على معاني الكلمات: ماذا يقصد بالهوية؟! ان اخرج على الناس ببيان اعلن فيه ايماني بالماركسية؟! هل هذا هو المطلوب مني فعلا في هذه المرحلة؟! الكل يسأل عن المضمون الاجتماعي لحركتنا ولهذه الثورة الوليدة.. هل هذا أوان تحديد مضمون اجتماعي؟! ألسنا، بعد، في مرحلة تحرر وطني؟ كيف يراد مني، اذاً، ان احرم طبقات كثيرة من شعب فلسطين من المشاركة في النضال لتحريرها؟! 

وتدخلت مناقشاً... قلت:

فلنحدد، في نفس الوقت، طبيعة القوى التي نقاتلها. العدو هو اسرائيل والصهيونية والقوى الاستعمارية والامبريالية التي تساندها.

فلسطيني اولاً ..

قاطعني ابو عمار: في العادة يشبهون اسرائيل بأنها مخفر امامي لحراسة المصالح الاستعمارية في الوطن العربي.. أنا افضل تشبيهها بشركة الهند الشرقية. 

اذاً، فالمعركة ليست فقط ضد اسرائيل وإنما هي كذلك ضد كافة انماط الوجود الاستعماري في الارض العربية، وهي بهذا المعنى معركة لا تخص الفلسطينيين وحدهم وإنما هي تخص كل العرب. ان اسرائيل تحتل الآن بالاضافة الى فلسطين أراضي مصرية وسورية، والكل يعرف انها طامعة بلبنان، وان مشاريعها التوسعية تشمل شرق الاردن والعراق وكل مصر وبعض الجزيرة العربية. 

قال ابو عمار: هذا صحيح، ولكنني فلسطيني اولا. وأنا كفلسطيني مشرد ولاجئ، بلا وطن ولا ارض. هل يطلب مني ان استكين وانام حتى تنفجر الثورة العربية الشاملة؟! ابداً... عليّ ان اقاتل من اجل استعادة وطني. على الاخرين، طبعا، ان يقاتلوا، ولكن لا احد يستطيع ان يفرض الثورة على غيره، كل عليه بنفسه، على شعب سوريا ان يقاتل لتحرير ارضه المحتلة، وعلى شعب مصر ان يقاتل لاستعادة شبه جزيرة سيناء، اما أنا فمعركتي هنا... على ارض فلسطين ومن اجلها. 

لكنك لا تعيش في صحراء، انت تتحرك من خلال ظروف موضوعية محددة فرضها ذلك الوجود الاستعماري، بعضها امتداد له وبعضها الاخر رد فعل منطلقه ارادة التحرير.

قال ابو عمار وهو يشير الى المدفع الرشاش السوفياتي الصنع والمنتصب على طرف الطاولة الصغيرة مكملا منطقه: بالنسبة لي، كفلسطيني، فقد حسمت الامر واخترت طريقي لمواجهة هذا الوجود الاستعماري.. بالسلاح وحده ستكون مواجهتي له.

بين التخوين والتعاطف الهادر

انت حر طبعا في اختيارك، لكنك ستصطدم قطعا بجملة الاوضاع العربية الراهنة. 

اكتست لهجة أبي عمار شيئا من الحدة وهو يقول: بل لقد حدث مثل هذا الصدام فعلا. قبل 5 حزيران كنا نتهم بأننا نريد توريط الدول العربية في حرب هي غير مستعدة لها، وقيل اننا كعملاء لحلف السنتو! نتآمر لاحراج الانظمة التقدمية تمهيدا لاسقاطها فوق ساحة القضية الفلسطينية. وبعد 5 حزيران قيل لنا :  "اذا اطلقتم رصاصة واحدة اعتبرناكم مجرمين وخونة... ان عملكم غير المسؤول، الآن، سيؤدي الى تدمير الامة العربية فاهدأوا وكفوا عن عبثكم والا...". 

اتسعت ابتسامة ياسر عرفات حتى غطت وجهه كله، ورفع ذراعيه وهو يقول ضاحكا :  لولا ان حركتنا اصيلة وتعبر عن ضمير شعبنا وارادته في تحرير وطنه لعلقنا على اعواد المشانق في اكثر من عاصمة عربية بتهمة الخيانة العظمى. 

 اختفت الابتسامة بسرعة وحل محلها تجهم بينما ابو عمار يضيف فيقول:  لكنهم عندما لمسوا رعب اسرائيل منا ومدى التجاوب الشعبي الذي نلناه برفضنا للهزيمة والاستسلام تزاحموا على تأييدنا وادعاء ابوتنا.

اذاً؟! 

ورنت نبرة القوة في صوت أبي عمار وهو يقول : في البداية كان يمكن لهذه الاوضاع العربية ان تعكس سلبياتها علينا بحيث تربك مسيرتنا او تعطلها، لكنما الحال هي غير الحال الآن. لقد بتنا اقوياء... اقوياء اكثر مما يتصورون واكثر مما تتصورون جميعا. وليس مصدر قوتنا السلاح او عدد الرجال الذين يحملونه، على وفرتهم، وانما المصدر الاساسي لقوتنا هو هذا التعاطف العارم الذي نلقاه من الجماهير العربية في كل مكان.

 قد تسألني هنا : لماذا، اذاً، ترفعون شعار عدم التدخل في الشؤون العربية. اعرف ان هذا الشعار يثير لغطا ويستغله البعض للتشكيك فينا. ولكن دعني اقول لك شيئا: اننا اكثر الناس تدخلا في الشؤون العربية على الصعيد العملي. اننا نفرض انفسنا ووجودنا على كل الحكومات العربية، ونفرض عليها تلبية طلباتنا جميعا. كل ما نريده منها نحصل عليه، وليس هذا بأي حال دليل ضعف وانما هو على العكس تماما. ما يهمني من الانظمة العربية هو ما يتعلق بالثورة وبفلسطين، فإذا ما اعطيته انتفت ضرورة التصادم معها، اما اذا منع عني ما اريده فإننا لا نسكت. 

 لكي تكون الصورة واضحة سأضرب لك مثلا لبنانيا : من حيث المبدأ، لا حق لي بأن اعلن رأيي في النظام السائد بلبنان. ليس من واجبي ان اطالب او ان اعمل على اسقاط هذا النظام. مثل هذا العمل حق مطلق لشعب لبنان لا ينازعه فيه منازع.. وليس لي، بالتالي، ان ابدي رأيي في الشؤون الداخلية، بمعنى ان اطالب باقالة عبد الله اليافي مثلا او بتوزير فلان من السياسيين. كل ما يهمني الا يتصدى هذا النظام لضرب العمل الفدائي وتصفيته. وحتى اذا ما عمد النظام الى ضربنا فلن نرد عليه بتدبير انقلاب مثلا، وانما نترك لشعب لبنان ان يقول كلمته الفصل في هذا الموضوع. 

 ويوم حادث كفرشوبا، على سبيل المثال، لم يكن رجال الـ "فتح" او مقاتلو العاصفة هم الذين تظاهروا وطالبوا بحماية العمل الفدائي وانما جماهير شعب لبنان هي التي خرجت تتظاهر وتهتف بحياة العمل الفدائي وتطالب بتأمين سبل حمايته وتمكينه من الانطلاق والتصاعد بغير تعقيدات ومحاولات احباط متعمدة. 

 هكذا، ايضا، موقفنا بالنسبة للاردن، على دقته الفائقة، وتشابكه بالظروف الموضوعية القائمة هنا. 

 لم يخطر ببالنا يوما ان نقول للملك حسين: اقل هذا الوزير وعيّن لنا ذاك.. ولا طلبنا منه طرد ضابط او عزل محافظ، الى ما هنالك من الشؤون الداخلية البحته... ولكننا، من جهة اخرى، نمارس حقنا في حماية انفسنا ووجودنا واستمرار عملنا هنا. 

 اربد وجه ابي عمار للحظات ثم عاد الى طبيعته وقال :  لقد كان ما كان يوم  4/11 (يقصد حادث الصدام الدامي الذي وقع في عمان بين قوات حكومية والتنظيمات الفدائية والذي تمثلت شرارة تفجيره في "كتائب النصر" التي يقودها طاهر دبلان). هل تعرف عدد شهدائنا في ذلك اليوم الاسود؟ لقد سقط منا 17 شهيدا. بالطبع سقط العشرات من المواطنين العاديين العزل والابرياء ومن رجال السلطة، ولكننا نرى انهم جميعا منا.. لقد خسرناهم جميعا. ولولا حكمتنا، يومها، وضبطنا الفولاذي لاعصابنا، وحرصنا على الا نستدرج الى معركة لا نرى لها، الان، ما يبررها لتحول هذا الحادث الى واحدة من ابشع المجازر في التاريخ.

 المهم.. بعد الذي كان، صارحنا الملك بحقيقة موقفنا بكل وضوح. قلنا له اننا لا نتدخل في شؤون حكمه الداخلية، الا ما يمس منها صميم وجودنا وبقائنا. 

 ما هو مطلبنا الاساسي من الاردن، في هذه المرحلة؟!

 مطلبنا ان نتواجد على ارضه، وان نتحرك بحرية ضمن التجمعات الفلسطينية الحاشدة هنا، وان يكون لنا حق الموت من اجل ارضنا. وها نحن هنا، كما ترى.. وهذا يكفينا.

 القوة الثالثة ..

 احضر احد الرجال شاباً، وجاءوا بعشاء للمقاتل الذي رافقني، وقال لي ابو عمار: 
 اتتعشى؟ كلنا نأكل هنا مع بعضنا.. لاطبقية ولا طبقات بيننا، فطمن جماعة اليسار... اعتذرت مبتسما قبل ان اقول: دعنا نفرغ من النقطة الاولى، ولسوف يطول حديثنا حول اليسار. 

 ان النمط الراهن لعلاقات الانظمة العربية، على اختلاف اتجاهاتها، بالمنظمات الفدائية مرشح للانهيار في اية لحظة... ولو حدث وتم الاتفاق على "حل سياسي" لتغيرت الصورة كليا، ولصار هم الانظمة تكريسا وتحقيقا للحل العتيد ان تصفي العمل الفدائي. 

 وقاطعني ابو عمار ليقول :  هذا وارد طبعا، ولا اخفيك اننا نعيش في حالة تنبه ويقظة دائما لاننا نتوقع ضربات جديدة بقصد تصفيتنا في كل لحظة. ونعرف ايضا ان بعض الانظمة العربية تستخدمنا، في اتصالاتها الدولية، ورقة مساومة للوصول الى الحل السياسي العتيد بأقل خسائر وتنازلات ممكنة... لكن ما لا تعرفه تلك الانظمة اننا بتنا اقوى من اية محاولة لتصفيتنا. اننا، ونقولها بصراحة القوة الثالثة هنا.. نأتي مباشرة بعد الجيش الاردني والقوات العراقية العاملة في الاردن، وقبل القوات السعودية المتواجدة حاليا في الضفة الشرقية. هذا من حيث القوة والتسليح، ثم هناك المساندة الشعبية الكاسحة لنا داخل الاردن وخارجه والنابعة من تصميم هذه الامة على رفض الهزيمة وارادة النصر فيها. 

 وليس من التبجح في شيء ان اقول: اننا نحن من اكد ارادة النصر في هذه الامة. بعد 5 حزيران وجدنا من تحرك واعلن، بالرصاص، ان الحرب لم تنته، وان شعب فلسطين ما زال حيا، وان الامة العربية اقوى من الهزيمة. 

 لقد كانت ثورتنا هي الاعلان المضيء عن ارادتنا الجبارة التي ترى في سائر الحلول السياسية استسلاما ولا شيء غير الاستسلام. 

 بالمناسبة، هل سمعت ما قالته اذاعة العاصفة عن المشروع السوفياتي؟. لقد هاجمته بعنف بالغ واكدت ان شعب فلسطين وحده هو الذي يقرر مصيره، بغض النظر عن موقف الحكومات العربية من قضية تحرير وطنه، وكذا من قضية تحرير اراضيها المحتلة. 

 وصل رجلان آخران فسلما ولما سمعت ابا عمار ينادي كلا منهما بلقب الدكتور استفهمت فقالوا لي: انهما طبيبان تركا عملهما الحر وانضما الى"فتح"، وهما يعملان في بعض المستوصفات الصحية التي افتتحناها في سائر انحاء الاردن. 

 عدنا الى الموضوع مع قول أبي عمار: عجيب اتهامنا بالقطرية في حين اننا، عمليا، قد الغينا التجزئة. اننا لا نعترف بالحدود. ان رجالنا ينتقلون من قطر عربي الى آخر ببطاقاتهم الصادرة عن "فتح" فحسب. ونحن نعمل في كل ارض عربية، وحيثما تواجد فلسطينيون. ولنا قواعدنا في سورية، وندرب قواتنا في العراق وفي مصر (وفي الصين ايضا وفي فيتنام) وفي الجزائر وحيثما توفرت لنا الفرص. ولنا نشاطات مثمرة في السعودية والكويت وسائر انحاء الخليج. وليس معقولا ان ندفع عنا تهمة القطرية بالعمل مثلا لخلع الملك فيصل، او لتبديل نظام الحكم في قطر او في البحرين او في اي قطر عربي آخر. ولسنا مستعدين، بالطبع، لمناقشة هذا النظام او ذاك حول رأيه واجتهاداته الخاصة في المذاهب السياسية.. كما اننا لسنا مستعدين لتحديد مواقفنا من اي نظام على اساس نظرته للاشتراكية مثلا...

أكثر الناس يسارية ..

 قلت: ها قد ولجنا بوابة الحديث عن اليسار... 

 ارتفع صوت "الختيار" وهو يقول : الكل يسأل هل نحن من أهل اليمين أم اننا من أهل اليسار. الصحافيون الأجانب يسألون، اول ما يسألون، عن هذه النقطة. واخواننا القوميون العرب يتهموننا باليمينية. لقد قرأت في "الحرية" قبل ايام، تحليلا يقول ما معناه، اننا سنخون قضية الكفاح المسلح حتما بحكم تكويننا الطبقي.. 

 التفت ابو عمار الى الرجال من حوله وضحك فضحكوا وهو يسألهم بعامية هي خليط من الفلسطينية والمصرية: يا جماعة انا ناسي املاك ابويا فين.. تعرفوها انتو؟! 

 وعندما هدأ الرجال واستعادوا وقارهم اكمل ابو عمار يقول: والله ليس بين رجال "فتح" رأسماليون ومحتكرون وبرجوازيون. هل طفت بالقواعد؟ هل رأيت المقاتلين أثرياء؟! انهم جميعا من الفقراء المسحوقين.. بل انهم أفقر اهل الارض قاطبة، فهم كفلسطينيين يفتقرون ليس فقط الى اسباب الحياة وإنما ايضا الى الوطن ذاته، وهذا أفظع انواع الفقر. 

 قلت: أنت الآن تؤكد سلامة ما يقول به اهل اليسار. واندفع ابو عمار يقول بشيء من الحدة الممزوجة بالتأثر: أنا لاجئ. نحن شعب من اللاجئين. هل تعرف معنى ان تكون لاجئا. انا انسان فاقد كل شيء. ليس لدي أي شيء. حتى وطني أخذ مني وطردت منه. ما معنى اليسار واليمين في كفاحي لتحرير وطني. انني أريد هذا الوطن ولو حرره لي الابالسة، وكفلسطيني لست أملك من الوقت ما أنفقه في النقاش والمفاضلة بين اليسار واليمين. 

 هل أنا في مركز يمكنني من رفض مشاركة او مساعدة اي انسان؟! 

 هل يطلب مني، مثلا، ان أرفض فلوس السعوديين بحجة انهم من أهل اليمين؟! ولكنني بفلوس هؤلاء اشتري اسلحة من الصين.. فماذا يسمى عملي هذا، يسارية أم يمينية رجعية؟!

 القضية بسيطة جدا بالنسبة لي وللفلسطينيين ولا ضرورة للتعقيدات فيها. لقد طردنا من وطننا الذي اغتصبه شعب آخر بقوة السلاح وبدعم الاستعمار، وواجبنا وحقنا طبعا ان نعمل لتحرير هذا الوطن واستعادته بقوة السلاح ايضا. 

 ان البلبلة السائدة حول هذا الموضوع تنبع من التعقيد ولا شيء غيره. تناولوا الامور ببساطة فيهون علينا فهمها. ان الكلمات لا تعني شيئا. المهم العمل والمهم النتيجة... 

 قلت: لكن العمل مرتبط بالفكر.. و"فتح" كحركة تضع في طموحها اشعال ثورة تحريرية مطالبة بتحديد موقف فكري واضح وقاطع، ليس كل من حمل السلاح ثائرا ومقاتلا ثوريا.. وفي معركة بالغة التعقيد كالتي فُرض خوضها على شعب فلسطين، والامة العربية، يبدو الفكر وكأنه السلاح الأهم. 

 قال ابو عمار بهدوء : اشرح لي ببساطة ماذا تعني.. 

 قلت: لنبدأ ببعض الاسئلة. 

 اليست معركتنا ضد اسرائيل والصهيونية معركة ضد الاستعمار والامبريالية في الوقت ذاته؟ 

 قال ابو عمار: بلى، قطعا.. 

 هل تنحصر مطامع اسرائيل في فلسطين وحدها؟ 

 بل هي تتعداها الى معظم الاقطار العربية... 

 الا يرتبط الوجود الصهيوني عضويا بالمصالح الاستعمارية في منطقتنا؟ 

 بلى... 

 الا تعكس هذه المصالح الاستعمارية نفسها على الانظمة العربية بنسبة او بأخرى؟ 

 بلى... 

 اليس تصدينا لمواجهة اسرائيل، وهي ذروة الوجود الاستعماري والمخفر الامامي لحماية مصالحه على أرضنا صداما مفتوحا وشاملا مع كل القوى الاستعمارية؟ 

 قال "الختيار" :  تعني ان هذا التحليل يفرض علينا ان نكون بالضرورة في صف اليسار. دعني أقل لك، اذاً: نحن اكثر الناس يسارية في العالم كله. 

 لا تستغرب. اليس الاتحاد السوفياتي هو زعيم اليسار في العالم؟ 

 نحن اكثر يسارية من الاتحاد السوفياتي نفسه، فهو يقول بالحل السلمي ويقدم من اجل ذلك المشاريع، ونحن نرفض الحل السلمي، وبالتالي سائر المشاريع بما فيها مشروعه.. 

 هل الاحزاب الشيوعية العربية اكثر يسارية منا؟! لنتحدث بصراحة. انا اقول: ابدا.. فهي قد حملت، ذات يوم، لواء الدعوة للصلح مع اسرائيل، هذه التي تسميها انت ذروة الوجود الاستعماري على ارضنا..

 وتدخلت معترضا: 

 لنكن واضحين... انا لا اناقشك من مواقع الشيوعيين العرب وبلسانهم... 

 قال ابو عمار : افهم هذا، فهم حتى الآن ما زالوا "متحفظين" حيال العمل الفدائي، ويقولون عنا اننا متهورون ومهووسون ومدفوعون بمشاعر دينية الجذور. 

 لقد قال لي السوفيات مثل هذا الكلام. قالوا اننا نستعجل الامور ولا نفهم طبيعة مرحلتنا فنحملها فوق ما تطيق. 

 اود ان أسألك: هل صراعنا مع اسرائيل ناشئ عن كون نظام الحكم فيها عسكريا وفاشيا فقط؟! وهل إذا وصل اهل اليسار فيها الى السلطة انحلت الازمة؟! 

 قلت: اطمئن.. ليس في اسرائيل يسار حقيقي، فالاشتراكية لا تعيش في مناخ موبوء بالعنصرية ولا يمكن ان تعيش في مجتمع يقوم على الدين والعرقية... 

 قال أبو عمار : حتى لو سلمنا جدلا بهذا فمطالبة حركتنا الثورية الوليدة بأن يكون لها مضمون اجتماعي تبدو سابقة لأوانها. هل تريدني ان احدد منذ الآن طبيعة نظام الحكم في فلسطين، بعد تحريرها؟!

 لو فعلت ذلك لكنت كمن باع جلد الدب قبل ان يصيده. 

 اكثر من هذا: ان الحديث عن المضمون الاجتماعي لحركة المقاومة، في الوقت الراهن، انما يصدر عن يسار تبشيري، وينم على طفولة يسارية فحسب. 

 نحن في مرحلة تحرر وطني. وفي مثل هذه المرحلة يجب ان تجمد الخلافات المذهبية التي تصبح، بالفعل، نوعا من الترف الفكري، حتى تحسم القضية بالتحرير، وبعدها يمكننا ان نختلف ما طاب لنا الاختلاف حول اليسار واليمين والاشتراكية والليبرالية وما الى ذلك.. 

 ثم اننا لسنا حزبا. نحن مجموعة من الفلسطينيين الذين اكتشفوا، ربما قبل غيرهم، ان وطنهم لن يعود اليهم الا اذا قاتلوا لاستعادته.. وهكذا حملنا السلاح وبدأنا القتال بغير ان نجهد انفسنا في التفكير عما يعنيه عملنا بالتحليل الايديولوجي له. 

 قلت: لكن حملك للسلاح يفترض ان يضعك، بالضرورة، في موقع يساري... 

 قال وهو يلقي بأطراف الحطة الى الخلف فيبرز وجهه الدقيق بكامل تفاصيله: 

 يا عزيزي، ليس من الانصاف ان تطلبوا منا ان نكون اكثر تطرفا من ماو تسي تونغ. مثلا: كان يقاتل شان كاي شيك، حامي حمى البورجوازية ومنفذ اغراضها.. ولكنه عندما احتلت اليابان بلاده بادر الى التحالف مع شيك ذاته لأن تحرير الوطن اهم بكثير من الاختلاف الايديولوجي حول نظام الحكم فيه. 

 ثم... لماذا تطالبون بعزل قوى وطنية اساسية وفعالة عن الثورة، خاصة في مرحلة تحتاج فيه الثورة الى جهد كل ابناء شعب فلسطين؟! 

 بأي حق يمكنني، الآن، ان اصنف الفلسطينيين. المحك الوحيد هو العطاء وهو تلبية نداء الثورة. من يأتِني متطوعا فهو وطني، ومن يساعدني بالمال لا يمكنني ان ارفض عطاءه لأنه بورجوازي او رأسمالي. بالمناسبة: هل لك ان تدلني على الرأسماليين الفلسطينيين؟! انني لا ارى لهم وجودا. ان اكثرنا ثراء، في الظروف الراهنة، هم بعض الذين عاشوا سنوات طويلة في انحاء الخليج العربي، فجمعوا بعض المال بكدهم وجهدهم وكفاءاتهم الخاصة.. بل ان كبار الاثرياء الفلسطينيين قد تخلوا عن جنسيتهم الاصلية وحملوا بدلا منها جنسيات الاقطار التي يعيشون فيها.. ولا يوجد بيننا، عدا الكثرة الساحقة من اللاجئين والمشردين المعدمين، الا بعض البورجوازيين الذين يدللون على وطنيتهم في كل مناسبة. 

 وبعد هذا كله فأنا بحاجة الى اموال من يساعدني بالمال. المال عنصر اساسي للثورة مثله مثل الرجال. بالمال اشتري اسلحتي. وبالمال احفظ كرامات اسر الشهداء. وبالمال أؤمن للثورة ما تتطلبه من تجهيزات ضرورية.. فمن اين تريدني ان آتي بالمال؟!

من الشعب، كل الشعب... 

 وهل آخذه أنا من الحكومات؟! أبدا. انما آخذه من جماهير الشعب. ولكنني لن اهتم طبعا بفحصه للتأكد هل هو من كبار التجار ام هو من صغار الكسبة، فلا فرق عندي بين هؤلاء واولئك الا بمقدار اخلاصهم لقضية الثورة. 

اعرف ان كثيرين يتقوّلون علي ويزعمون ان ماليتنا كلها انما تأتي من "الرجعية العربية" لأننا على حد زعمهم اخوان مسلمون، ولكن ثق بأن النسبة العظمى من اموال فتح انما تأتي من التبرعات الشعبية... وهذا لا يعني بالطبع اننا نرفض المساعدات الاخرى سواء اجاءتنا من اقصى اليمين ام من اقصى اليسار... 

جاؤونا بالشاي للمرة الثالثة.. ودعاني ابو عمار الى ايقاف المناقشة لدقائق قائلا : دعنا نتناول الامور ببساطة. قضيتنا مفهومة: ارضنا محتلة وعلينا ان نسعى لاستعادتها... وقد حملنا السلاح لهذه الغاية، فماذا يطلب منا بعد لتأكيد اخلاصنا لقضية شعبنا؟ 

اننا لاجئون. لا بد من انك رأيت طوابير اللاجئين وهم يتزاحمون امام مكاتب وكالة الغوث لينالوا من الغذاء ما لا يكفي لاقامة الأود. هذه الصورة تتغير الآن، ونحن من غيّرها. قارن بين تلك الصورة وبين ما رأيته في قواعد المقاتلين. 

بعيدا عن آراء اليسار التبشيري وعن بدع الطفولة اليسارية، يمكننا ان نقول ببساطة: 

بينما هذه الامة تلعق جراح الهزيمة هبّ فتية منها فأعادوا اليها كرامتها المهدورة وثقتها بنفسها. لقد اعطينا هذه الأمة فوق ما أعطاها الجميع.. ألم تسمع من رفع عقيرته بالقول: اننا شعب متخلف وعاجز عن صنع مصيره؟! نحن من كذّب كل هذه الاقاويل والمزاعم... 

بماذا كذبناها؟

بالعمل، وليس بالمناقشات الحامية بينما نحن متمددون باسترخاء من حول فناجين القهوة في مقاهي الارصفة. 

اننا نعمل. فليعمل الآخرون، وليحققوا نتائج افضل من هذه التي حققناها حتى الآن، وسنكون اول من يصفق لهم، ولأفكارهم كائنة ما كانت، رغم ان نجاحهم لا يجب ان يغمط حقنا باعتبارنا من مهد لهم الطريق... فلنعمل، ومن خلال العمل ذاته يمكن ان يتبلور فكرنا ويتكون. اما المناقشات النظرية الآن حول المضمون الاجتماعي، وحول اليمين واليسار، فهي أقرب الى اللغو. 

رمقني ابو عمار بنظرة استطلاع، ورصد درجة انفعالي بكلامه ثم أضاف قوله: انظر الى الاسرائيليين. لقد جمدوا كل خلافاتهم المذهبية واتحدوا جميعا على الباطل... افلا نتحد نحن على الحق ومن أجله؟!

كانت الساعة قد قاربت الثانية بعد منتصف الليل، والكل ساهر يقظ. وقلت لأبي عمار :  لقد شغلتك وقتا طويلا.. 

قال "الختيار": ابدا. اهلا بك دائما، ومرحبا بكل نقاش. ولكن يجب الا نغفل عما يدبره لنا اعداؤنا. اننا في حالة استنفار كما تعرف، نحاول ان نستشف نوايا عدونا فلا نستطيع معرفتها بالضبط.. هذا ما يشغلنا فعلا. وصدقني ان الانشغال بتفاصيل المعركة وضرورتها أجدى، في المرحلة الراهنة، وأهم. 

ودعت الرجال وخرجت، بصحبة مقاتلين، قاصدا عمان. ولما بلغتها خطر لي ان "اداهم" مكتب "فتح" الرئيسي في جبل اللويبدة.. ونفذت الخاطرة، ترجلت من السيارة ونزلت الدرجات الضيقة، ودخلت فاذا بي اجد اكثر ممن توقعت من الرجال : كان هناك "ابو اياد"، من اركان "فتح"، و"ابو خالد" من اركان الجبهة الشعبية، ومعهما الاخ "ضمير" او كمال ناصر سابقا.. وبينما انا أبدأ في رواية تفاصيل لقائي بياسر عرفات في واحدة من القواعد بنواحي السلط، دفع احدهم الباب بعنف ودخل... والتفت فاذا الداخل "الختيار" نفسه! 

ابتسمت وهو يقول:

لو انك قلت لي انك ستعود الى عمان لصحبتك معي.. وابتسمت وابتسم الجميع بينما ابو عمار يشير الي : لقد ذبحني. طاردني بحكاية اليسار حتى انهكني. لست أدري من كشف له سري وابلغه اني ضعيف يساريا فركز هجومه على هذه الثغرة بكل ضراوة. 

صمت قليلا ثم التفت الى "ابي خالد" قائلا: 

يبدو انك من حرضه عليّ.. 

وقبل ان يجيبه اندفع الأخ "ضمير" يقول: 

الحقيقة يا ابا عمار اننا جميعا، بالفشل الرهيب الذي منينا به عبر تجاربنا الحزبية، آخر من يحق له التحدث عن اليسار.. ومن التبجح الفارغ ان يزعم اي منا، نحن الذين نعيش في ظل "فتح" وبحمايتها وبفضل وجودها، انه اكثر يسارية منكم. 

وامتد بعد ملحوظة "الضمير" حديث آخر ليس هنا مجال نشره، وان كان الحوار مع "فتح" قد ظل بعد كل ما قاله ابو عمار مفتوحا... وما زال.

 أعادت "السفير" نشرها يوم 14/11€4.